الأشهر الحرم

الأشهر الحرم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

حديثنا اليوم حول موضوع مهم جداً ربما نغفل عنه حينما نكون في معترك حياتنا، التي تعددت تكاليفها ووظائفها وأعمالها، فانغمسنا فيها، ثم لم نتدبر في كتاب الله أو قلما نتدبر.. وعدم التفكر ومعرفة مقاصد القرآن وأحكامه تقودنا إلى الهلكة، فلا نشعر إلا ونحن في معسكر الموتى حينما تظهر الحقائق، ويكشف المستور، ويحصل ما في الصدور، ويبعثر ما في القبور، ونلاقي الله العليم الشكور، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور..

وهذا الموضوع المنسي هو (تعظيم الأشهر الحرم): إن الأيام لتمر بنا وتمر معها تلك الأشهر، وقد لا يشعر الكثير منا بمكانتها وعظمتها عند الله، ومضاعفة الأوزار فيها، لقوله –تعالى-: (( فلا تظلموا فيهن أنفسكم)) وسيأتي بيانها..

لكنني في هذا المقام لا بد أن ألفت نظر القارئ أو المستمع الكريم إلى أمر خطير جداً، وهو: هل استشعرنا وفهمنا حقيقة تلك الأشهر وعظمتها، ومضاعفة الذنوب فيها؟!

وهل مر بأذهاننا يوماً من الأيام أنه يجب على الإنسان أن يعظم تلك الشهور؟! ها هي الأيام تمضي بنا إلى الأمام، فهل يا ترى عرفنا عظمتها وقدرها عند الله، أم لا زلنا في غفلتنا سائرين؟!.

إخواني الأعزاء: نأتي إلى التعرف والإطلاع على هذه الأشهر، وماذا قال علماء الإسلام قديماً وحديثاً عنها، وسنأخذ آيات من سورة التوبة وهي التي تحدثت عن هذه الأشهر بالتفصيل…

قال –تعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (36) سورة التوبة.

في هذه الآيات الكريمات يبين الله –تعالى- أن عدة الشهور في حكم الله، وفيما كتب في اللوح المحفوظ اثنا عشر شهراً، والمقصود هنا الشهر الهجري كما سيأتي بيان ذلك، والشهر كما هو معلوم تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون يوماً..

قوله –تعالى-: (( في كتاب الله)) أي: في اللوح المحفوظ.

قوله: (( يوم خلق السماوات والأرض)) أي وضع هذه الشهور بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة..

وقوله تعالى: (( منها أربعة حرم)) هذا هو الشاهد من ذكر الآيات.. والأشهر الحرم المذكورة في هذه الآية هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جماد الآخر وشعبان وهو رجب مضر، وقد قيل له رجب مضر؛ لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، فلذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: (الذي بين جمادى وشعبان)1 وهذا التوضيح من النبي      -صلى الله عليه وسلم- رفع ما وقع في اسمه من الاختلال والاختلاط.

قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- في تفسير قوله –تعالى-: (( منها أربعة حرم)) واحدها حرام (كسحب جمع سحاب) وهو من الحرمة فإن الله –تعالى- كتب وفرض إحرام هذه الأشهر وتعظيمها، وحرم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولي والعملي، ولكنها أخلت بالعمل اتباعاً لأهوائها.. أ.هـ.

عرفنا ما هي الأشهر الحرم لكن قد يقول قائل: لماذا لم تجمع هذه الأشهر في زمن واحد بأن تكون متتابعة؟ ولماذا جعل رجب فرداً لوحده، والأشهر الثلاثة الأخرى متتابعة؟!

والجواب: هذا التفريق يدل على كمال إحاطة الله بهذا الكون، وتشريعه لعباده ما يصلح أمورهم ويسعد حياتهم وينظم معاشهم.. فشرع الأشهر الحرم الثلاثة سرداً أي الشهر بعد الآخر، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ليتمكن الناس من أداء الحج، والإتيان من مسافات بعيدة؛ لأن في هذه الشهور يحرم القتال، فكان الحاج يأمن على نفسه وأمواله في السفر من الانتقام أو الثأر بين القبائل، ويأتي في أول ذي القعدة ثم يصل إلى مكة في شهر الحج، وعند رجوعه إلى بلده فإن معه شهراً ونصفاً حتى يصل إلى بلده وهو بقية شهر ذي الحجة وشهر محرم.. فهذه حكمة عظمى من جعل تلك الأشهر بهذا التتابع.. ولننظر ما يقول علما التفسير في ذلك:

يقول ابن كثير -رحمه الله-:( وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة.. فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة،؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج، وينشغلون بأداء المناسك، وحرم بعده شهراً آخر وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول؛ لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً)) أ.هـ.

 

هل تعظم الحسنات والخطايا في الأشهر الحرم؟!

لقد وردت روايات عن السلف تبين أن الذنوب تكون أشد جرماً في هذه الأشهر، كما أن الحسنات تضاعف. يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله –تعالى-: (( فلا تظلموا فيهن أنفسكم)) قال: في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم..

وقال قتادة: (إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء).

يقول ابن كثير -رحمه الله- في قوله الله: (( فلا تظلموا فيهن أنفسكم)) أي في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله –تعالى-: (( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذابٍ أليم)) وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام. أ.هـ.

يقول القرطبي -رحمه الله-: ( خص الله –تعالى- الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان). أ.هـ

بعد ذكر أقوال العلماء في عظمة الأشهر الحرم، ومضاعفة الذنوب فيها، لا بد أن نقف مع الآية الكريمة ((فلا تظلموا فيهن أنفسكم)) وهذه الوقفة هي مدى استشعارنا لتلك الخصائص التي اختصت بها هذه الأشهر، وكأننا نرى من خلال الواقع المعاش أن الناس عن هذه الحرمة غافلون، ولا يعرف الكثير منهم تلك الأحكام، كما سيأتي منها لاحقاً… فيا أمة محمد هل من مُذكِّر بالله قائم بحجة الله.. يذكر الناس أحكام دينهم!! والمشكلة كل المشكلة أننا لم نر في بعض البلدان مع انتشار الصحوة الإسلامية فيها من ينبه على هذا الأمر مع غفلة الناس عنه، فنرى الظلم يستشري في الواقع، ويكثر الغش والكذب والاحتيال في الأشهر الحرم، و غيرها.. إن الله لا يمكن لأمة لا زالت تمتهن حرمة الأحكام الشرعية..

فيا أيها المصلحون.. ويا أيها الدعاة – ويا طلبة العلم.. ويا من يقرأ هذا الكلام.. هذه حجة الله قد أقيمت على الناس من قديم، ولكننا نُذكِّر بها أنفسنا وإخواننا..

مسألة: أخذ من تعظيم هذه الأشهر تغليظ الدية على من قتل فيها خطأً.. يقول الأوزاعي: القتل في الأشهر الحرم تغلظ فيه الدية فيما بلغنا وفي الحرم فتجعل دية وثلثاً، ويزاد في شبه العمد في  أسنان الإبل.. اتضح من كلام الأوزاعي أن الدية تغلظ إلى زيادة الثلث، وإذا كان القتل شبه عمد فإنه يزاد في عُمر الإبل..

قال الشافعي: تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم.. وروي عن عثمان بن عفان أن الدية يزاد فيها الثلث، وهو مروي عن القاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله بن عمر، وابن شهاب، وأبان بن عثمان..

لكن أبا حنيفة، ومالك خالفوا في ذلك وقالوا: إنها لا تغلظ، فالقتل في الحل والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، وهو قول جماعة من التابعين.

وبعد أن ذكر الله –تعالى- الأشهر الحرم قال: (ذلك الدين القيم) أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم، والحذو بها على ما سبق من كتاب الله الأول.

أهل الجاهلية والأشهر الحرم:

كان أهل الجاهلية يعظمون الأشهر الحرم، ويرون القتل فيها عظيماً وكبيراً على خلاف الأشهر الأخرى، إلا أنه حصل منهم تغيير لبعض هذه الأشهر، واستحلال لها، حيث كانوا يؤخرون محرم الذي هو أول السنة الهجرية إلى صفر، فيحلون ما حرم الله لأغراض ذاتية، وهم بذلك قد فعلوا جرماً عظيماً، ولهذا يقول الله –تعالى-: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (37) سورة التوبة. والنسيء: هو تأخير حرمة بعض الأشهر إلى الشهور القادمة، واستحلال الشهر الحرام، فاستحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال؛ لأجل موافقة ما حرم الله.. فهم بعد هذه الفعلة الشنيعة سيقولون: نحن حرمنا أربعة أشهر، ولا فرق!! مع أنه منكر فضيع، أنزل بشأنه القرآن.

إذن نفهم من الآية أن النسيء معناه: التأخير.. وهو زيادة في الكفر الذي هم فيه، من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تنفع ولا تضر..

وهذا التأخير إضلال للكفار الجهلاء، بفعل سادتهم الكبراء، الذين أضلوهم عن طريق الحق صراط الله المستقيم.

أول من أخر الشهر الحرام (محرم) إلى صفر:يقول الإمام محمد بن إسحاق – في كتابه السيرة-: (كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله، وحرم منها ما أحل الله -عز وجل-: القلمس، وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد، ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه عوف ابن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام، فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيباً، فحرم رجباً، وذا القعدة، وذا الحجة، ويحل المحرم عاماً، ويجعل مكانه صفر عاماً، ليواطئ – ليوافق- عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله) أ.هـ.

تبين لنا ما فعله ذلكم الظالم لنفسه، من تبديل أحكام الله، فقد ذم الله فعلهم الشنيع، وهكذا كل من بدل أحكام الله في الأرض، ورضي بغيرها، أو ترك الحق واتخذه وراءه ظهرياً.

حكم القتال في الأشهر الحرم:

هنا مسألة فقهية اختلف فيها أهل العلم فكلٌ فهم من الآيات شيئاً فقال به.. والأدلة لا تتضارب ولا تختلف ولكن الأفهام والعقول هي التي يحصل فيها الاضطراب والاختلاف.. والمسألة هي: ما حكم ابتداء القتال في الشهر الحرام. هل هو محكم أم منسوخ؟!

القول الأشهر هو أنه منسوخ بمعنى أنه يجوز أن نبدأ المشركين بالحرب، أما الدفاع فهذا بالإجماع أنه واجب، لكن ابتداء القتال وهو الهجوم الذي لم يسبقه اعتداء حصل فيه الخلاف.. ومن قال بهذا القول استدل بالآية: (( فلا تظلموا فيهن أنفسكم)) وقال بعدها: (( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)) وهذا أمر عام ولم يقيد بغير الأشهر الحرم، ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاصر أهل الطائف في شهر ذي القعدة وهو شهر حرام.

القول الثاني: أن ابتداء قتال الكفار في الشهر الحرام حرام لا يجوز، وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام، لقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (2) سورة المائدة.

وإذا شئت المزيد فانظر المسألة في تفسير ابن كثير عند هذه الآية في سورة التوبة.

وبعد ذكر هذه الأشهر الحرم وذكر منزلتها وعظمتها، وذكر مسائل فيها نذكر المسلمين في كل مكان أن يعظموا ما عظم الله، ويحرموا ما حرم الله، ويحلوا ما أحل الله، وأن لا نغفل عن ذلك أبداً.. والله الموفق للصواب..

المراجع: تفسير القرطبي.تفسير ابن كثير.تفسير المنار.


1والحديث بكامله:  عن أبي بكرة- رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب في حجته فقال: (( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان )) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.