أهمية المساجد في حياة المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله، وصحبه، والتابعين .. أما بعد: فإن للمساجد أهمية بالغة في حياة المسلمين، فهي الزاد الروحي لمسيرة المسلم الطويلة إلى الله – تعالى -، وهي المدرسة التي يأخذ فيها علومه، وآدابه، ويعرف ماضيه وحاضره، ويترسم خطى مستقبله، ولقد كانت المساجد في أيام عزتها ومكانتها منطلقَ المسلمين لكثير من شؤون حياتهم، فمن ذلك أنها كانت جامعة لمختلف العلوم، وساحة للتدريب على مشاق الجهاد في سبيل الله، حتى خرجت منها الجيوش إلى أصقاع الأرض مهللة مكبرة، ترفع راية الإسلام في كل أنحاء المعمورة .. تلكم هي مكانة المساجد، وأهميتها، واليوم لا بد من إعادة تلك الأهمية والمكانة إلى نفوس الناس، وواقع حياتهم، ومن خلال الأسطر القادمة يتضح لنا أهمية ومكانة المساجد في حياة المسلمين.
ولنعرض إلى بيان معنى المسجد في اللغة، والشرع؛ قبل الكلام عن ذلك:
فالمسجد لغة: من سجد يسجد سجوداً إذا وضع جبهته على الأرض1.
“والمسجد شرعاً: هو مكان الصلاة للجماعة، وللجمعة، والأصل فيه كل موضع من الأرض؛ لقوله ﷺ: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل2 وهذا من خصائص هذه الأمة، قال القاضي عياض: “لأن من كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا في موضع يتيقنون طهارته، ونحن خصصنا بجواز الصلاة في جميع الأرض، إلا ما نهي عنه3“.
وقال القرطبي: “هذا ما خص الله به نبيه ﷺ، وكان الأنبياء قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبيع، والكنائس، ثم إن العُرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس حتى يخرج المصلى الذي يجتمع فيه للأعياد ونحوها، فلا يعطى حكمه”4.
ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه، اشتق منه اسم المكان للموضع الذي بني للصلاة فيه فقيل: مسجد، ولم يقولوا: (مركع) مثلاً أو غيره مما يشتق من أفعال الصلاة.
فالمساجد بيوت الله ، ولمكانتها، وفضلها؛ ذكرها الله – سبحانه – في ثمان وعشرين آية من كتابه الكريم، وأضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم فقال سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (سورة الجن:18).
ورغب سبحانه في بنائها وعمارتها، وأخبر أن عُمَّارها المؤمنون بالله واليوم الآخر قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ (سورة التوبة:18)، فالمساجد دور عبادة، وذكر، وتضرعن وخضوع لله سبحانه، ومواضع تسبيح، وابتهال، وتذلل بين يدي الله سبحانه، ورغبة فيما عنده من الأجر الكبير، ومقام تهجد وترتيل لكتاب الله، وحفظ له، وغوص وراء معانيه، كما أخبر سبحانه أن تعطيل المسجد، ومنع الناس من ذكر الله فيه ظلم قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (سورة البقرة:114)، وجعل القرآن الكريم الدفاع عن المساجد، وحمايتها؛ مطلباً من مطالب هذا الدين يشرع لأجله القتال في سبيله قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً (سورة الحج:40).
قال القرطبي – رحمه الله تعالى – عن هذه الآية: “أي لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء؛ لاستولى أهل الشرك، وعطلوا ما يبنيه أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة”5.
وليس هذا بغريب فالمساجد أحب البقاع إلى الله، وهي قلعة الإيمان، ومنطلق إعلان التوحيد لله ، فهي المدرسة التي خرجت الجيل الأول، ولا زالت بحمد الله تخرج الأجيال، وهي ميدان العلم والشورى، والتعارف والتآلف، إليها يرجع المسافر أول ما يصل إلى بلده شاكراً الله سلامة العودة، مستفتحاً أعماله بعد العودة بالصلاة في المسجد؛ إشعاراً بأهميته، وتقديمه على المنزل تذكيراً بنعمة الله سبحانه، وتوثيقاً للرابطة القوية للمسجد، ولذا تجد أن أول عمل قام به النبي ﷺ بعد هجرته من مكة إلى المدينة كان بناء المسجد المسمى مسجد قباء، وهو الذي ورد ذكره في القرآن الكريم في قوله سبحانه: لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (سورة التوبة:108)، وسار على ذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم في القرون المفضلة، ومن بعدهم من السلف الصالح حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: “وكانت مواضع الأئمة، ومجامع الأمة؛ هي المساجد، فإن النبي ﷺ أسس مسجده على التقوى، ففيه الصلاة، والقراءة، والذكر، وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم”6.
“والمسجد في الإسلام، وكما كان في عهد النبي ﷺ ليس مكان إقامة الصلاة فحسب؛ بل كان منطلق أنشطة كثيرة، فكان النبي ﷺ يعقد فيه الاجتماعات، ويستقبل فيه الوفود، ويقيم فيه حلق الذكر، والعلم، والإعلام، ومنطلق الدعوة، والبعوث، ويبرم فيه كل أمر ذي بال في السلم، والحرب، وأول عمل ذي بال بدأه النبي ﷺ حين قدم المدينة مهاجراً أن شرع في بناء المسجد، وكان النبي ﷺ إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد كما ورد في الصحيح7.
أما الآن ومع تدرج الزمن، وتغير أساليب الحياة؛ فقد تحولت كثير من وظائف المسجد إلى مؤسسات أخرى، وهيئات، ودوائر، لكن لا يعني ذلك أن المسجد قد انتهت رسالته، أو لم يعد له دوره وتأثيره، بل بقي الكثير، ولو لم يكن للمسجد إلا إقامة الصلاة، وما يقام فيه من الحلقات؛ لكان ذلك أمراً عظيماً، كيف والصلاة هي ركن الإسلام، وعمود الدين، وأعظم شعائر الإسلام الطاهرة، ومع ذلك لا يزال المسجد مهيأ للقيام بأدوار عظيمة في التعليم، والتربية، والوعظ، والتوجيه، والإرشاد، والتكافل الاجتماعي، والحسبة.
وفي أيامنا – وبعد النهضة الشاملة – نرى المساجد بدأت – بحمد الله – تستعيد شيئاً من مكانتها سواء فيما يتعلق ببنائها، والعناية بها، فأهل الخير والإحسان لا يزالون – بحمد الله – يبذلون بنفوس سخية في سبيل عمارة المساجد وخدمتها، وبدأت المساجد كذلك تأخذ نصيبها من قبل المواطنين الصالحين، فهي تشهد نشاطًا ملحوظًا في تحفيظ القرآن، وحلق العلم، والذكر، والوعظ، والإرشاد، والمحاضرات، والندوات، والدروس العلمية، والحلقات، والدورات، والمكتبات وغيرها، لكن هذه الأنشطة تحتاج إلى مزيد من التنسيق، والتخطيط، والتنظيم، وحسن الإعداد، وجودة الأداء، كما أنها بحاجة إلى الإشراف المباشر عليها من قبل المشايخ، وطلاب العلم، وتتركز المسؤولية في ذلك على الأئمة، والخطباء، والمؤذنين بالدرجة الأولى.
فالمساجد أهم وسيلة، وأسلم مكان، وأفضل بقعة ينطلق منها العلماء، وطلاب العلم؛ لتوجيه الناس، وتعليمهم، وتفقيههم، وحل مشكلاتهم، ولذا كان المسجد منذ عهد رسول الله ﷺ والقرون الفاضلة هو المكان الذي يصدر عنه كل أمر ذي بال يهم المسلمين في دينهم ودنياهم، وكان العلماء والولاة هم الذين يتصدرون الأمة من خلال المسجد.
وخلاصة القول: فإن أهم الأمور التي يمكن أن يقوم بها العلماء، والدعاة، ويؤدونها للمجتمع والأمة من خلال المسجد ما يلي:
1- الإمامة وما يتبعها ويلحق بها.
2- الخطابة في الجمعة والأعياد ونحوها.
3- الفتاوى.
4- الدروس والحلق.
5- المحاضرات والندوات.
6- الكلمات والتوجيهات والمواعظ.
7- سائر أعمال الحسبة الأخرى التي يمكن أن تتحقق من خلال المسجد حسب نظر المشايخ”8.
والله أعلم، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
1 المخصص (2 /490) لــ (ابن سيده).
2 رواه البخاري 419 (2/ 218)
3 انظر: وظيفة المسجد في المجتمع(1/2) لـ (صالح بن ناصر الخزيم)، والمشروع والممنوع في المسجد (1 /7) لـ(محمد بن علي العرفج).
4 انظر: المشروع والممنوع في المسجد (1 /7) لـ (محمد العرفج).
5 انظر: تفسير القرطبي (ج12 /ص70)
6 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (9/ 196)
7 رواه البخاري 4066 (ج13 /ص328) ومسلم 4973 (ج13/ ص345).
8 انظر: أثر العلماء في تحقيق رسالة المسجد(1 /12) لـ( ناصر بن عبد الكريم العقل)