النيـة وأهميتها
الحمد الله المبدىء المعيد، الفعال لما يريد، الذي بنعمته تتم الصالحات، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليطهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى أله و صحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
لقد خلقَ الله تعالى الخلق لغاية عظيمة، وهدف سامي، وهو عبادته وحده لا شريك له؛ قال الله تعالى: ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( (1). ولا يمكن تحقيق هذه الغاية بعمل بعض العبادات المحضة من صلاة، وصيام، وحج، وذكر، وقراءة للقرآن، وذلك لقلة وقت عمل هذه العبادات، ولكن يمكن تحقيق هذه الغاية العظيمة من الخلق بأن تكون كل حركاتنا وسكناتنا لله – عز وجل-، فالصلاة لله، والحج لله، والزكاة لله، والعمل الذي نعمله من أجل تحصيل لقمة العيش ينبغي أن تكون لنا نية فيه صالحة حتى نؤجر، ونكون من العابدين لله. وقضى وطرنا وشهوتنا ينبغي أن تكون لنا فيه نية صالحة حتى نؤجر؛ كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه وفيه: " وفي بضع أحدكم صدقة " . قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في الحرام – أي كان عليه وزر- فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر 2).
وحتى النوم ينبغي أن يكون لنا فيه نية صالحة؛ كما قال معاذ رضي الله عنه : إني لأحتسب نومتي كما احتسب قومتي. وقد جاءت أحاديث النبوية كثيرة في بيان عظم إصلاح النية، وصدقها، وإخلاصها لله تعالى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة، قال: " إن بالمدينة لقوماً ما سِرتم من مسيرٍ ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم فيه ". قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: " وهم بالمدينة، حبسهم العذر3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال رجلٌ: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، قال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته ووضعها بيد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك، فقد قبلت، أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته 4) . وعن أبي يزيد معن بن يزيد بن الأخنس رضي الله عنهم، وهو وأبوه وجده صحابيون، قال: كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت! فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لك ما نويت يا يزيد، ولكَ ما أخذت يا معن " (5).
وعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ثلاثة أُقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه – قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله – عز وجل- بها عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر. وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، قال: " إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله – عز وجل – مالاً وعلماً، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله – عز وجل – فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله – عز وجل – علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت به بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما فيه سواء6).
ولقد كان الرعيل الأول على قدر عال من إخلاص النية واستحضارها،، وذلك لفمهم الحقيقي لمفهوم العبادة الشامل، والجامع لها قوله تعالى : ) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (7). فالصلاة والذبح والنذر، وغيرها من العبادات، بل حياة الإنسان وموته يجب أن تكونا كلها لله وحده لا شريك له. أما حصر العبادة في المسجد، أو في مكان معين، أو في جزئية معينة من الدين، فهذا سبيل من سُبل العلمانية، القائمة على أساس فصل الدين عن الحياة.
والله نسأل أن يجعل أعملنا كله صالحة، ولوجهه خالصة، لهدي نبيه موافقة. اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونعوذ بك مما لا نعلمه.
1 – الذاريات (56).
2 – انظر الحديث بطوله رواه مسلم كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم (1674).
3 – أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، رقم(4071).
4 – أخرجه البخاري كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم، رقم (1332). ومسلم كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق وإن وعقت الصدقة في يد غير، رقم (1698). وهذا لفظ مسلم.
5 – أخرجه البخاري كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر، رقم (1333).
6 – رواه أحمد رقم(17339) والترمذي كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، رقم(2247). وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم (16).
7 – الأنعام(162 – 163).