النفس المطمئنة

النفس المطمئنة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف وأكرم مبعوث إلى العالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها الأحبة:

كلنا يحفظ قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}1ويتمنى أن يكون من أصحاب النفوس المطمئنة..

ولكن يا ترى ما هي النفس المطمئنة هذه؟ وما صفة أصحابها؟

قال البخاري – رحمه الله -: "المطمئنة المصدقة بالثواب"،وقال الحسن: يا أيتها النفس  المطمئنة: إذا أراد الله – عز وجل – قبضها اطمأنت إلى الله، واطمأن الله إليها ورضيت عن الله ورضي الله عنها، فأمر بقبض روحها، وأدخله الله الجنة وجعله من عباده الصالحين..2

وقال ابن كثير وهو يصف هذه النفس ويعرفها بقوله: فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها:(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك) أي إلى جواره وثوابه، وما أعد لعباده في جنته (راضية) أي في نفسها (مرضية) أي قد رضيت وعد الله ورضي عنها وأرضاها.. (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضاً؛ كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، فكذلك هنا. أ.هـ 3

وقال الثعالبي المالكي: ولما تكلم ابن عطاء الله في مراعاة أحوال النفس، قال: رب صاحب ورد عطله عن ورده والحضور فيه مع ربه هم التدبير في المعيشة وغيرها من مصالح النفس، وأنواع وساوس الشيطان في التدبير لا تنحصر، ومتى أعطاك الله سبحانه الفهم عنه عرَّفك كيف تصنع، فأي عبد توفر عقله واتسع نوره نزلت عليه السكينة من ربه فسكنت نفسه عن الاضطراب، وثقت بولي الأسباب، فكانت مطمئنة أي: خامدة ساكنة مستسلمة لأحكام الله، ثابتة لأقداره، وممدودة بتأييده وأنواره فاطمأنت لمولاها لعلمها بأنه يراها فاستحقت أن يقال لها: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي .. الآية)، وفي الآية خصائص عظيمة لها منها: ترفيع شأنها بتكنيتها ومدحها بالطمأنينة ثناء منه سبحانه عليها بالاستسلام إليه والتوكل عليه، والمطمئن: المنخفض من الأرض، فلما انخفضت بتواضعها وانكسارها، أثنى عليها مولاها..4

وقال القرطبي وهو يحكي جملة من أقوال المفسرين في تفسير النفس المطمئنة: قوله تعالى:(يا أيتها النفس المطمئنة) لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فاتهم الله في إغنائه وإفقاره ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى الله – تعالى-، فسلم لأمره واتكل عليه.وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء الله – عز وجل -.

 والنفس المطمئنة: الساكنة الموقنة؛ أيقنت أن الله ربها، فأخبتت لذلك. قاله مجاهد وغيره. وقال ابن عباس: أي المطمئنة بثواب الله، وعنه المؤمنة. وقال مقاتل: الآمنة من عذاب الله، وقيل: التي عملت على يقين بما وعد الله في كتابه، وقال: ابن كيسان: المطمئنة هنا المخلصة. وقيل المطمئنة بذكر الله – تعالى-

بيانه (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)5، وقيل: المطمئنة بالإيمان، المصدقة بالبعث والثواب.وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: يعني نفس حمزة. والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص طائع.6

وقال القرطبي أيضاً: وقال عمرو بن العاص: إذا توفي المؤمن أرسل الله إليه ملكين، وأرسل معهما تحفة من الجنة، فيقولان لها: اخرجي أيتها النفس المطمئنة راضية مرضية، مرضياً عنكِ، اخرجي إلى روح وريحان ورب راضٍ غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك وجد أحد من أنفه على ظهر الأرض. وذكر الحديث وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائر لم يُر على خلقته طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبور لا يدري من تلاها (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية).7 وهنا كلام نفيس لابن القيم – رحمه الله – وهو يبين هل النفس واحدة أم ثلاث؟ فقال: والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته وللإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه.

فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطيع النظير عن محبة غيره وخوفه ورجائه، فيستغني بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه، وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه، فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين يديه؟ يسمع به ويبصر به، ويتحرك به ويبطش به، فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه،ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وبذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى:{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}8.

فإن طمأنينة القلب، سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج عنه؛ وهذا لا يتأتى بشيء سوى الله – تعالى- وذكره البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور والثقة به عجز. قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مرد له أن من اطمأن إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائناً من كان، بل لو اطمأن إلى سواه أغراها بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.9 فالنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهي مطمئنة. وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره، وذكره، ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضى به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسبه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين..10

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين ومن أوليائك المقربين ومن أحبابك المخلصين  يا رب العالمين

والحمد لله رب العالمين .


1 -(الفجر: 27-30)

2– صحيح البخاري كتاب التفسير سورة الفجر.

3– تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/541).

4– الجواهر الحسان في تفسير القرآن (5/589).

5 -(28)سورة الرعد .

6– الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/57-58).

7–  انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/58).  

8 -(28)سورة الرعد .

9 -الروح لابن القيم (330-331).

10– انظر إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم (1/126- 127).