المساجد والمآتم

المآتم والمساجد

المآتم والمساجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أما بعد:

من المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ختم الله به الرسل والرسالات، وجعل شريعته خير الشرائع، ناسخة لما قبلها، ولما كانت هذه الشريعة العظيمة كاملة وشاملة لشئون الحياة كلها، توعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من يحاول الزيادة عليها وعدم الاكتفاء بها بالوعيد الأكيد والتهديد الشديد، فقال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) رواه البخاري ومسلم. وفي حديث آخر ((فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)).

وهذا التهديد له أبعاده وأهدافه الكبرى؛ لأن الناس إذا لم يكتفوا بالشرع، فلا شك أنهم سيأتون ببدع وأمور جديدة محدثة تناقض شريعة الله –تعالى-، أو تضاهيها، وهذا من التشريع الذي لم يأذن به الله؛ كما قال –تعالى-:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (21) سورة الشورى. فمع تطاول العصور والدهور سيأتي من يزيد أو ينقص من الدين؛ لهذا جعل الرسول حداً ومانعاً ومزيلاً لتلك الشوائب والنتوءات في الشريعة، فبين أن كل من زاد على الدين من عند نفسه فإن تلك الزيادة والمخالفة مردودة في وجهه..

ومن الأمور التي شاعت في كثير من بلدان العالم – والتي تعتبر من الزيادات والمحدثات البدعية التي أحدثها الناس عبر العصور المختلفة وبعد عصور الخير والأفضلية عصر نبينا محمد وصحابته والتابعين- تلك البدع التي يقيمونها عند الموت والتي يقال لها: المآتم، هذه المآتم التي أحدثت ولم يسبقها في شرع الله أثارة من علم..

وهذه الأمور التي تحْدُثُ قد نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك كالصياح على الميت وذكر مآثره وأعماله الطيبة بصوت مرتفع، وهو النياحة بعينها، فعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (النياحة على الميت من أمر الجاهلية؛ فإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران، ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار)) روى نحوه مسلم، وروى البخاري ومسلم عن أم عطية قالت: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن النياحة). والأحاديث في النهي عنها والوعيد عليها كثيرة…

ومما يفعله بعض المسلمين في ذلك: الاجتماع في المساجد لموت أحد من الناس وقراءة سورة يس، وقد أتى بها حديث مختلف في صحته،.. والعجب أن كثيراً من الناس قلّما يقرؤون القرآن إلا عند الموت أو عند المناسبات!! أما في سائر أيامهم فتجدهم في غفلة، وأمرُّ من ذلك أن يعتمد الناس على حديث ضعيف ويعمل به يحرص كل الحرص على العمل به، مع وجود الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي ترشدنا إلى العمل الصحيح عند موت أحد الناس!

ومع قراءة القرآن يحدث ذكر مآثر الميت وفضائله والثناء عليه، برفع الأصوات والنياحة المحرمة بنص الحديث الشريف..

ومنه الاجتماع لقراءة الفاتحة لروح الميت، مع أن الإنسان ليس له إلا ما سعى؛ كما قال –تعالى-:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} سورة النجم (39). ولا يصل إليه إلا ما كان باقياً بعده بسببه، كصدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له) كما جاء في الحديث الشريف.. وكالدعاء له –أيضاً-كما جاء في الحديث عن عثمان بن عفان قال كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (( استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل )) رواه أبو داود وصححه الألباني.

والأولى أن يتبعوا شرع نبينا محمد في تلك الأمور والحوادث فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي على الجنازة ثم يحملها القوم وهم صامتون يدعون له بقلوبهم وألسنتهم، لا كما يفعل هؤلاء اليوم من رفع الصوت بالتهليل والتكبير كقولهم: (لا إله إلا الله) مرات ومرات مع أن ذكر الله مستحب في كل حال، لكن في هذا المقام يجب اتباع الشرع.. ثم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا وضعت الجنازة على القبر يذكرهم بالله، ثم إذا دفن الميت قال: (( استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)) ولم يأمرهم بقراءة سورة عند قبره، ولكنها من المحدثات.. فإذا رجع أهل الميت عزاهم في مصابهم وقال: ((أحسن الله عزاءكم)) ويقول: ((لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.. اصبر واحتسب))رواه البخاري ومسلم بمعناه.. ولم يزد على ذلك ما يفعله هؤلاء الطغام من الكلمات الكثيرة والنياحة المحرمة، وكذا تهويل المصيبة وتفزيع أهالي الميت بالصياح، وذكر الفضائل والمآثر لمن مات.. وكان إذا مات أحدهم يقول الرسول-صلى الله عليه وسلم- اصنعوا لأهله طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم، كما قال: ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً))1، لما مات جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- ثم يهدئ المصاب، ويذكر الناس بقدر الله-تعالى- ولم يعهد ولم يذكر عن السلف الصالح الاجتماع للمآتم في المساجد ولا غيرها، ولا ذكر أوراد وأدعية صارت عادة للناس… بل كل ذلك مما أحدثه الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله..

(ويحرم النحيب وتعداد المحاسن والمزايا وإظهار الجزع؛ لأن ذلك يشبه التظلم من الظالم، وهو عدل من الله تعالى) وهذا مما ذكر في كتب الحنابلة وغيرهم.

وكذا نبه على ذلك كثير من علماء الإسلام قديماً وحديثا؛ كالإمام النووي، وله فتوى في ذلك، وابن حجر، وابن تيمية، وابن الحاج، والعز بن عبد السلام، وابن القيم، والقاسمي، وغيرهم من علماء الإسلام في مختلف العصور..

ومما يفعله الناس في المآتم تحميل الناس وتكليفهم فوق طاقتهم، والإسراف في موائد الأكل التي تكون نفقتها على أهل الميت.. وهذا يزيد الطين بلة والمرض علة، لأن أهل الميت مشغولون بمصيبتهم، وتلك التكاليف والأشغال تزيدهم مصيبة فوق مصيبتهم، خاصة إذا كانوا من الفقراء، أو حتى كانوا من الأغنياء،..

والأولى بهؤلاء أن يتقوا الله ويرحموا أهل الميت، ويقدموا لهم الأكل وكل ما يحتاجونه في مثل هذه المناسبة..

نسأل  الله أن يصلح الأمور، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه ولي الله ويذل فيه عدوه…

والله الموفق،،

 


1 رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني.