حتى ما يأكله الطير صدقة
الحمد لله الذي من علينا بالأموال، وشرع لنا إنفاقها فيما هو مصلحة في الدين والدنيا، ووعدنا على ذلك الخلف العاجل في الدنيا والثواب الجزيل في الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجود والإحسان والأفضال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ينفق ماله لله ويعيش في نفسه عيش الفقراء ابتغاء مرضاة ذي الإكرام والجلال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليماً كثيراً.1
نص الحديث:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة)2
التعريف بصحابي الحديث:
أنس بن مالك بن النضر أبو حمزة الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله ﷺ وأحد المكثرين من الرواية عنه. كناه النبي ﷺ أبا حمزة ببقلة كان يجتنبها، ومازحه النبي ﷺ فقال له: (ياذا الأذنين).
خدم النبي ﷺ عشر سنين، ودعا له النبي ﷺ فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه) قال أنس: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين، وأن أرضي لتثمر في السنة مرتين، وكانت إقامته بعد النبي ﷺ بالمدينة، ثم شهد الفتوح، ثم قطن البصرة، ومات بها.
قال علي بن المديني كان آخر الصحابة موتاً بالبصرة.3
المعنى العام للحديث:
خير البر أدومه، وأفضل الصدقة ما بقي وعن نفعه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (124) سورة النساء.
ومن تصدق بشيء فقد أقرض الله قرضاً حسناً، وسيضاعف له أجره أضعافاً كثيرة، ولن يستطيع أحد البر والإحسان إلا إذا كان مكتسباً بصناعة، أو زراعة، أو تجارة، وإذا حصل له المال شارك به في الخير وأطعم منه المساكين، وساعد به المحتاجين، وعمل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } (267) سورةالبقرة.
وقد رغب الإسلام أبناءه في وجوه الخير وجعل العبادة قلبية وبدنية ومالية وجمع ذلك في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ والملائكة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة.
قوله: (ما من مسلم) أخرج الكافر؛ لأنه رتب على ذلك كون ما أكل منه يكون له صدقة، والمراد بالصدقة الثواب في الآخرة وذلك يختص بالمسلم، نعم ما أكل من زرع الكافر يثاب عليه في الدنيا كما ثبت من حديث أنس عند مسلم، وأما من قال إنه يخفف عنه بذلك من عذاب الآخرة فيحتاج إلى دليل، ولا يبعد أن يقع ذلك لمن لم يرزق في الدنيا وفقد العافية.
قوله : (أو يزرع) أو: للتنويع؛ لأن الزرع غير الغرس.
قال ابن حجر: ويستنبط من هذا الحديث جواز اتخاذ الضيعة والقيام عليها، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة، وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين، فمنه حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ : (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا).4
قال القرطبي: يجمع بينه وبين هذا الحديث: بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين، وحمل هذا الحديث على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها، وفي رواية لمسلم: (إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة) ومقتضاه أن أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً منه، ولو مات زارعه، أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره.
قال الطيبي: نكَّر (مسلماً) وأوقعه في سياق النفي، وزاد من الاستغراقية وعم الحيوان؛ ليدل على سبيل الكناية على أن أي مسلم كان حراً أو عبداً مطيعاً أو عاصياً يعمل أي عمل من المباح ينتفع بما عمله أي حيوان كان يرجع نفعه إليه ويثاب عليه.5
قال المهلب: هذا يدل أن الصدقة على جميع الحيوان وكل ذي كبد رطبة فيه أجر، لكن المشركين لا نأمر بإعطائهم من الزكاة الواجبة؛ لقوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم).6
والغرس والزرع من أفضل القربات، وأحسن المبرات تحيا به الأرض، وتخرج به طيبات الثمار والحبوب والحشائش التي يعيش بها الإنسان وسائر الحيوان، ومن غرس شجراً أو بذر زرعاً لم تسقط منه حبة ولا ورقة إلا كتب له بذلك عند الله أجراً، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : (ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سرق له منه صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه7 أحد إلا كان له صدقة)8
ومن عرف الشريعة وفهم نصوصها وأدلتها علم أنها لم تترك من مرافق الحياة ومصالح مابعد الموت شيئاً إلا وأمرت به ودلت عليه فهذا نبي الإسلام يرغِّب في الزراعة ويحث عليها لأنها قوام الحياة وعماد المعيشة.
ومن غرس غرساًًًًًًًً فليكن غرسه من الأشجار المثمرة النافعة بعودها وورقها وثمرها وظلها وخصائصها الأخرى، فإنما الأجر بمقدار النفع و أنفع الأشجار أطولها عمراً أطيبها ثمراًً وبها تحصل الصدقة الجارية.
ومن كانت له مزرعة فليتق الله فيها، ولا يمنع حق الله منها: يؤدي زكاتها ويطعم منها القانع و المعتر والبائس الفقير، ولا يجعل بستانه للفجور والآثام، واجتماع الفسّاق، الذين يخرجون أيام الصيف إلى تلكم المنتزهات، فيرتكبون من الذنوب والكبائر شيئاً عظيماً، ويأتون كل منكر من القول والفعل جهاراً.
قال أحدهم:
تتبع خبايا الأرض وادع مليكها | لعلك يوماً أن تجاب فترزقا |
وقال بعض البلغاء: أجود الزرع ما غلظت قصبته، وعرضت ورقته، وادهامت خضرته، وعظمت سنبلته، والتفت نبتته.
وقيل لبعض الفلاسفة: ما بال الحشيش أنضر وأغض من الزرع؟ فقال: لأن الحشيش ابن للأرض، والأرض داية9 للزرع.
وقيل: للزرع ألف آفة ليس فيها أعظم من جور السلطان.
عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)،10وقال ابن عباس: المتوكل من يبذر.11
من فوائد الحديث:
1- في الحديث دلالة على حث النبي ﷺ على الزرع وعلى الغرس.
2- فيه دليل على كثرة طرق الخير، وأن المصالح والمنافع إذا انتفع الناس بها كانت خيراً لصاحبها.
3- فيه دلالة على أن الزرع والغرس يجمع مصالح الدنيا والآخرة.
1 الضياء اللامع من الخطب الجوامع لابن عثيمين (2/111)
2 رواه البخاري برقم (2195) ومسلم برقم (1553).
3 الإصابة في تمييز الصحابة (126-127) بتصرف.
4 سنن الترمذي (2328) قال الشيخ الألباني : صحيح انظر حديث رقم: (7214) في صحيح الجامع.
5 فتح الباري شرح صحيح البخاري- لابن حجر العسقلاني(5/4) بتصرف.
6 شرح ابن بطال لصحيح البخاري (11/473). وأصل الحديث في البخاري ومسلم.
7 ولا يرزؤه: أي لا ينقصه ويأخذ منه.
8 رواه مسلم برقم (1552).
9 الدَّايَة: الحاضنة.
10 رواه البخاري في الأدب المفرد برقم (479) قال الشيخ الألباني: انظر حديث رقم : 1424 في صحيح الجامع.
11 محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (2/85).