أخلاق العظماء

أخـلاق العظـماء

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون، دعونا نتكلم عن العظمة، ذرونا نتذكر العظماء، أقبلوا إليَّ لننشر عبيق أخلاقهم ونشتم ريح آدابهم، وهي تنفح من زهور صفاتهم، وتفوح من رياض فعالهم.

دعونا نشنف آذاننا بسماع بعض أخلاقهم، وننظر إلى أخلاقهم ما فعلت وما كان أثرها على حياتهم.

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا إلى الله –جل وعلا- وبيَّن شرائع الإسلام، وكان من أعظم ما استجاب له الناس: أنه كان يدعو إلى الأخلاق، وأن دينه يرشد إلى مكارم الأخلاق، وأنه هو نفسه كان على خلق عظيم،  تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود، ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). ومدلول الخلق العظيم ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين، ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم- تبرز من نواحٍ شتى:

تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله.

وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد -صلى الله عليه وسلم- لتلقيها. وهو يعلم مَن ربه هذا قائل هذه الكلمة، ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين1.   

عباد الله: إن الله يحب معالي الأخلاق ويبغض سفسافه2، وإن أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن3، وأحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلق4، وأفضل المؤمنين أحسنهم خلق5، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف6، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة7. وإن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار8، وخير ما أعطي الناس خلق حسن9، ليست هذه الفضائل إلا لقيمة الأخلاق وعظم القيام بها.

أيها المسلمون، من أخلاق العظماء: الصبر والعفة والشجاعة والعدل.

فالصبر: يحمل المرء على الاحتمال وكظم الغيظ وكفِّ الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.

والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة.

والشجاعة : تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال –صلى الله عليه وسلم-: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)10، وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.  

والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحَةِ، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة11.

ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه، فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله –تعالى- بقدر قربه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكاً مطاعاً يرجع الخلق كلهم إليه، ويقتدون به في جميع الأفعال، ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد12.

أيها المسلمون، قال يوسف بن أسباط: علامة حسن الخلق عشر خصال:

1.   قلة الخلاف.

2.   وحسن الإنصاف.

3.   وترك طلب العثرات.

4.   وتحسين ما يبدو من السيئات.

5.   والتماس المعذرة.

6.   واحتمال الأذى.

7.   والرجوع بالملامة على النفس.

8.   والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره.

9.   وطلاقة الوجه للصغير والكبير.

10.   ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه13.

عباد الله: من أخلاق العظماء: ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما جاءه ملك الجبال لينتقم له من الذين آذوه وأدموه وفعلوا به وفعلوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)14.

من أخلاق العظماء: ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح مع قومه الذين أخرجوه من أرضه، وحاربوه، وهموا بقتله، وآذوه وآذوا أصحابه واستضعفوهم، فعفا عنهم وقبل توبتهم، إنها عظمة الأخلاق، وأخلاق العظماء.

من أخلاق العظماء: قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-،-وكان ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لقرابته منه-: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد ما قال لعائشة في حادثة الإفك ما قال مع من قال. فأنزل الله –تعالى-: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(النور:22) فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه15.

من أخلاق العظماء: ما فعله قيس بن عاصم المنقري عندما قَتل ابنُ أخٍ له بعضَ بنيه، فأتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى، ثم أقبل على الفتى فقال: يا بني! بئس ما صنعت: نقصت عددك وأوهنت عضدك وأشمتَّ عدوك وأسأت بقومك؛ خلو سبيله، واحملوا إلى أمِّ المقتول ديته فإنها غريبة، ثم انصرف القاتل وما حلَّ قيس حبوته، ولا تغير وجهه16.

أخلاق العظماء: كما قال محمود الوراق:

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وما الناس إلا واحدٌ من ثلاثةٍ فأما الذي فوقي فأعرف قدره وأما الذي دوني فإن قال صنت عن وأما الذي مثلي فإن زلَّ أو هفا

 

 

وإن كثرت منه عليَّ الجرائمُ شريفٌ ومشروفٌ ومثلي مقاومُ وأتبع فيه الحق والحق لازمُ إجابته عرضي وإن لام لائمُ تفضلت إن الفضل بالحلم حاكمُ

 

 نعم، هكذا الصفح وهكذا التعامل كما نجده في كتاب الله تعالى وهو يحبب إلينا صورة حسن الخلق التي قلًّ أن توجد إلا عند العظماء: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران:134).

الخطبة الثانية:

إن الإسلام جاء ليدعو إلى أحسن الأخلاق، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بحسن الخلق، كما جاء عنه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)17، وعنه –صلى الله عليه وسلم- (إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً)18، وكان في دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)19. وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثته أنها كانت لأجل شيء عظيم كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)20.

إن أخلاق العظماء غالٍ جزاؤها، وعظيم أمرها، أمر بها الإسلام، وحث عليها الشارع، ووصى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعث لتتميمها، وأهلها هم أهل السيادة في الأرض، وإن جار الزمن، ولا يحملها إلا:

كل امرئ متَّقٍ لله محتشمِ مهذبٌ بتقى الرحمن محتسبٌ الله يحفظه مادام حافظَه

 

 

يخشى الذي بيديه منبع النعمِ في شأنه لعظيم الأجر والكرمِ ونفسه لمعالي البرِّ في نهمِ

 

وأعظم الأخلاق من هذا كله العلم بحق الله، والعمل بما يرضي الله تعالى، فإنه كان سبباً في الثناء على النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين قال له الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)؛ لأنه كان أزكى الناس وأزهد الناس وأعلمهم بالله وأخشاهم له، وأعلمهم بما يتقي، وأنقاهم وأتقاهم على الإطلاق، فلما زكت نفسه زكاه ربه من فوق سبع سماوات –صلى الله عليه وسلم-

أيها المسلمون، لابد أن نتخلق بأخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان خلقه القرآن، والذي كان قرآناً يمشي على الأرض، والذي كان أشد حياء من العذراء في خدرها، والذي كان يقوم في خدمة أهله ويخصف نعله بيده، والذي كان لا يرى إلا مبتسماً لم يفارق البهاء جبينه، ولا النور طلعته، الذي كان لا يقهر يتيماً ولا ينهر مسكيناً، والذي كان لا يغضب لنفسه قط إلا أن يكون غضبه لله، والذي كان يسعى في خدمة المحتاجين ومواساة المنكوبين ورحمة المستضعفين، والرأفة بالمؤمنين.

هذه أخلاقه السامية، وآدابه العالية وإن لنا فيه أسوة حسنة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21)، وهو حقاً العظيم الذي يحمل عظيم الأخلاق، فبه نتأسى وإياه نتبع، وعلى خطاه نسير.


1 في ظلال القرآن: (7/288).

2 رواه الطبراني وقال الألباني: صحيح انظر: السلسلة الصحيحة: (2/371برقم: 1627).

 3رواه أحمد وقال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم : 134 في صحيح الجامع.

4 رواه الطبراني وقال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم :179في صحيح الجامع.

5  أخرجه عبد الرزاق، وأبو يعلى، وقال الألباني: (صحيح ) انظر حديث رقم : 1128 في صحيح الجامع .

6  رواه الترمذي وأبو داود وأحمد وزيادة: الموطئون أكنافاً… عند الطبراني، وقال الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 1231 في صحيح الجامع.

7 أخرجه أبو يعلى وقال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 1578في صحيح الجامع.

8  أخرجه أحمد والبيهقي في الشعب، وقال الألباني:(صحيح) انظر حديث رقم:1620في صحيح الجامع.

9 رواه أحمد والبيهقي والحاكم، وقال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم:3321في صحيح الجامع.

10 صحيح البخاري: (19/72برقم:5649 ، وصحيح مسلم: (13/19برقم:4723).

11 مدارج السالكين: (2/309).

12 إحياء علوم الدين: (2/254).

13 إحياء علوم الدين: (3/77).

14 صحيح البخاري: (11/8برقم:2992 ،ومسلم: (11/8 برقم: 3352).

15 صحيح البخاري: (13/42برقم: 4741، ومسلم: 13/347 برقم: 4974).

16 وفيات الأعيان: (2/501).

17 رواه الترمذي: وحسنه الألباني: انظر: المشكاة (5083)، الروض النضير ( 855 ).

18 صحيح البخاري: (12/106برقم: 3476).

19  صحيح مسلم: (4/169برقم: 1290).

20 رواه أحمد وقال الألباني:(صحيح) انظر حديث رقم : 2349 في صحيح الجامع.