كم دمعت عينك من خشية الله

كم دمعت عينك من خشية الله

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها الأحبة: كم مرة دمعت أعيننا من خشية الله؟ وكم مرة تأثرت قلوبنا بكلام الله تعالى؟ من منَّا وقف مع نفسه وتأثَّر واقتدى بهؤلاء الذين ذكرهم الله – تعالى – وهو يصف أنبياءه – عليهم جميعاً الصلاة والسلام -: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (سورة مريم:58)، وقوله – تعالى – وهو يصف أهل العلم والصلاح والرشد: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (سورة الإسراء:109).

إن البكاء من خشية الله – تعالى – هو مقام عظيم، مقام الأنبياء والصالحين في كل زمان، إنه مقام إراقة الدموع من أثر الخوف من الله.

فيا ترى ما أنواع البكاء، وهل كل البكاء محمود؟

ذكر أهل العلم أن البكاء أنواع كثيرة فمن ذلك:

1. بكاء الخشية من الله – تعالى -.

2. بكاءٌ عند سماع القرآن.

3. بكاء الاعتبار والتدبر، والخوف من الوعيد.

4. بكاء الرحمة لفقدان عزيز.

5. بكاء التصنع، وهو غير مستحب بل مذموم.

6. بكاء الخوف من حوادث الدنيا وتغيراتها وتقلباتها، وهذا مكروه يولد المرض والاكتئاب. وكلامنا يدور حول البكاء الممدوح.

إخواني:

أتعلمون أن الرسول  قد ذكر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه(1).

بل قد صرح – عليه الصلاة والسلام – بنجاة من كان هذا حاله من النار فقال – عليه الصلاة والسلام -: لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم(2 وقال – عليه الصلاة والسلام – أيضاً: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله(3).

أيها الأحبة: إن البكاء من خشية الله تعالى من أعظم الأمور التي يحبها الله – تبارك وتعالى – فعن أبي أمامة  عن النبي أنه قال: ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله… الحديث(4).

قال عبد الله بن مسعود : “قال لي رسول الله : اقرأ عليَّ القرآن، قال: فقلت: يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت النساء حتى بلغت: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا(سورة النساء:41) رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي؛ فرفعت رأسي، فرأيت دموعه تسيل”(5).

وقال عبد الله بن الشخِّير : رأيت رسول الله  يصلي وفي صدره أزيزٌ كأزيز الرحى من البكاء(6).

ولقد كان أصحاب النبي  أتقى الناس، وأكثرهم خشية لله بعد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، قال هانئ مولى عثمان : كان عثمان  إذا وقف يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله  قال: إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعد أشد منه(7).

وعن عرفجة قال: قال أبوبكر الصديق : “من استطاع منكم أن يبكي فليبكِ، ومن لم يستطع فليتباكَ”، وقرأ ابن عمر – رضي الله عنهما – وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ فلما بلغ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فبكى حتى خر وامتنع من قراءة ما بعده(8).

وبكى أبو هريرة  في مرضه فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي(9). وهكذا كان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين من بعدهم، فهذا الحسن البصري بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: “أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي”(10).

وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – بكى يوماً بين أصحابه، فسئل عن ذلك فقال: “فكرت في الدنيا، ولذاتها، وشهواتها؛ فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادَّكر”(11).

إخواني: إن البكاء من خشية الله تعالى دليل على أن العبد يخشى مولاه ويراقبه، وعلامة بارزة على صحة الإيمان، وهو دليل على صلاح العبد واستقامته، وطريق موصل إلى محبة الله ورضوانه، وبرهان على رقة القلب واستجابته لمولاه، وسمة من سمات الخاشعين، كما أنه يورث الخوف من الله .. ألا فلنبكِ من خشية الله، ولنبكِ على ذنوبنا وخطايانا

قال أبو سليمان: “عودوا أعينكم البكاء، وقلوبكم التفكر”(12).

اللهم ارزقنا قلوباً خاشعة، وأعيناً باكية يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.


1– أخرجه البخاري ومسلم.

2– أخرجه الترمذي برقم (1633)، وصححه الألباني برقم (7778).

3– أخرجه الترمذي برقم (1639)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4113).

4– أخرجه الترمذي برقم (1669) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (3837).

5– أخرجه البخاري برقم (4306) ومسلم واللفظ له برقم (800).

6– أخرجه أبو داود برقم (904)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (799).

7– أخرجه الترمذي برقم (2308)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (132).

8– شرح السنة للبغوي (14 /373).

9– المصدر السابق.

10– التخويف من النار لابن رجب (23).

11– تفسير ابن كثير (1 /438).

12– الإحياء للغزالي (4 /438).