آدم والملائكة

آدم والملائكة

 

الحمد لله على إنعامه،والصلاة والسلام على خير أنبيائه،محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أمَّا بعدُ:

فإن الله يصطفي من عباده مَن يشاء ويختار، ويختصُّ بعضُهم بمزيدٍ من العلم، ولذلك فقد اختص اللهُ آدمَ وفضَّله على الملائكة بأن علمه ما لم يعلمه الملائكة الأبرارَ، وقد جرى ذلك الاختصاصُ في مقام التحدِّي والإعجاز، وذلك ليُظهر فضلَ آدمَ على الملائكةِ الكرامِ، فقال-سبحانه وتعالى-في قصة المُحاورة التي جرت بين الملائكةِ وربِّ العِزَّةِ والجَلَالِ مع حضور آدم -عليه السلام-، وذلك كما حكى اللهُ في كتابِهِ الكريمِ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33)}.

شرح الآيات:

قوله-تعالى-: {وإذ قال ربك} أي واذكر يا محمد إذ قال ربُّك للملائكةِ, واقصص على قومِكَ ذلك. قوله: {للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} أي قوماً يخلف بعضُهم بعضاً، قرناً بعدَ قرنٍ، وجيلاً بعدَ جيلٍ؛ كَمَا قَالَ- تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} [سورة الأنعام(165)]. وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} [سورة النمل(62)]. وقال: {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [سورة الزخرف(60)]. فسألتِ الملائكةُ ربَّها-عن ذلك-: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} سؤالُ الملائكةِ-هنا- هو سُؤالُ استعلامٍ واستطلاعٍ عن الحِكْمةِ في ذلك.فقال اللهُ-تعالى-مُجيباً لهم عن هذا السؤال:{إني أعلم مالا تعلمون},أي إني أعلم من المصلحةِ الرَّاجحةِ في خلق هذا الصنفِ على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم؛ فإني جاعل فيهم الأنبياء والرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون،والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له، المتبعون لرسله-صلوات الله وسلامه عليهم-. قوله: {ونحن نسبح} أي نُنَزِّهك عن كل عيب ونقص. قوله: {بحمدك} الباء هنا للمصاحبة، أي تسبيحاً مصحوباً بالحمد مقروناً به. قوله: {ونقدس} أي نصلي لك. قوله: {لك} اللام هنا للاختصاص؛ فتفيد الإخلاص؛وهي أيضاً للاستحقاق؛ لأنَّ الله-جلَّ وعلا-هو المستحق للتقديس والتعظيم.فأجابهم اللهُ-تعالى-:{إني أعلم ما لا تعلمون},أي من أمر هذه الخليفة التي سيكون منها النبيون، والصدِّيقون، والشهداء، والصالحون. قوله: {وعلم} أي الله علم {آدم} أبو البشر{الأسماء كلها}: اختلف المفسرون في ما هي الأسماء التي علمها اللهُ آدمَ، ولكن الذي رجَّحَهُ ابنُ كثيرٍ هو: أنه علَّمه أسماءَ الأشياءِ كلها؛ ذواتها, وصفاتها, وأفعالها؛كَمَا قَالَ ابنُ عبَّاسٍ:حتى الفسوة والفسية.يعني أسماء الذوات والأفعال،المكبر والمصغر. قوله: {ثم عرضهم على الملائكة},وقال لهم على سبيل التحدِّي: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أي إنْ كانَ لديكم علم بالأشياء، فأنبئوني بأسماء هؤلاء؟! فلم يعلموا بذلك، وإنما استسلموا لله، فقالوا:{قالوا سبحانك} أي أنت يا ربنا لم تفعل هذا إلا لحكمةٍ بالغةٍ. قوله: {لا علم لنا إلا ما علمتنا} وهذا اعترافٌ من الملائكةِ أنهم ليسوا يعلمون إلا ما علمهم الله,مع أنهم ملائكة مقرَّبون، لا يعصون الله ما أمرهم, ويفعلون ما يُؤمرون. قوله: {إنك أنت العليم} أي إنك ذُو العلمِ الواسع الذي أحطت بعلمك ما كان في الماضي,وما هو كائن في الحاضر،وما سيكون في المستقبل. {الحكيم} ذُو الحكمةِ البالغةِ، تضع الأشياءَ في مواضعِها.

فقال اللهُ مُخاطِباً لآدمَ: {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم} أي أخبرهم بأسمائِهم. {فلمَّا أنبأهم بأسمائهم قال} أي قالَ اللهُ للملائكةِ مُستفهماً استفهاماً تقريرياً {ألم أقل لكم}؛ كقوله-تعالى-: {ألم نشرح لك صدرك} قوله:{إني أعلم غيب السموات والأرض} أي ما غابَ فيهما. قوله: {وأعلم ما تبدون} أي ما تُظهرون{وما كنتم تكتمون} أي تخفون.

بعضُ الفوائدِ المُستفادةِ مِنَ الآياتِ:

1. إثباتُ القولِ للهِ-عزَّ وجلَّ-، وأنه بحرفٍ وصوتٍ؛ وهذا مذهب السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأئمة الهدى من بعدهم.

2.   إثبات الأفعال لله-عزَّ وجلَّ-أي إنه يفعل ما شاء، متى شاء، وكيف شاء.

3. استدلَّ بعضُ المُفسِّرين بهذِهِ الآيةِ على وجوب نصب الخليفة؛ ليفصلَ بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم،ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

4.   قيام الملائكة بعبادةِ اللهِ-عزَّ وجلَّ-، وتعظيمهم له، وكراهيتهم لمن يُفسد في الأرض.

5. بيان أنَّ الله-تعالى-قد يمنُّ على بعض عباده بعلم لا يعلمه الآخرون؛ وجهه: أن الله علم آدم أسماء مسميات كانت حاضرة، والملائكة تجهل ذلك.

6.   تشريف الله لآدم-عليه السلام-، حيث علمه ما لم تعلمه الملائكة.

7.   جواز امتحان الإنسان بما يدعي أنه مُجيد فيه.

8.   جواز التحدي بالعبارات التي يكون فيها شيء من الشدة.

9.   أنه ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه، فلا يدَّعي علم ما لم يعلم.

10.        جواز تقرير المخاطب بما لا يمكنه دفعه؛ والتقرير لا يكون إلا هكذا.

11.   أن الله-تعالى-عالم بما في السموات وما في الأرض، بل ويعلم ما تكنه القلوب. وغير ذلك من الفوائد. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والله أعلم.