النهي عن المكاسب المحرمة

النهي عن المكاسب المحرمة

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}( سورة آل عمران:102).

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}( سورة النساء(1).

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}( سورة الأحزاب:70- 71).

أما بعد:

فإن خير الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون عباد الله: روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (رواه مسلم برقم(1599).، فالحلال ما أحله الله تبارك وتعالى والحرام ما حرمه الله تبارك وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سكت عنه فهو عفو، وهناك أمور يا عباد الله تشتبه على عوام المسلمين، ولا يعرفها إلا العلماء كما بين ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فعلى المؤمن التقي الورع أن يفعل ما أحل الله له، ويترك ما حرم الله عنه، ويترك ما اشتبه عليه حتى ولو كان مباحاً خشية أن يجره إلى الحرام والعياذ بالله تبارك وتعالى.

يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه هذا الحديث: " ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام فقال أحمد: ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا شيئا لا يعرف. واختلف أصحابنا هل هو مكروه أو محرم على وجهين، وإن كان أكثر ماله الحلال جازت معاملته والأكل من ماله، وقد روى الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله، وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه، قال سفيان: يعجبني ذلك وتركه أعجب إلي، وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل، وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسليمان وغيرهما من الرخصة وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضى من الربا والقمار، ونقله عنه ابن منصور وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله؛ وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا فإنه يتعذر معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير.

ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي، ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه فصح كما تقدم عن مكحول والزهري، وروي مثله عن الفضل بن عياض وروي في ذلك آثار عن السلف"1.

أيها المؤمنون عباد الله:  هذا وإن من أعظم ما يضر بالأفراد والجماعات والشعوب ويفسد أخلاقهم المكاسب المحرمة كالربا ونحوه، فخطورتها عظيمة، وضررها جسيم، ولذا حرم تبارك وتعالى الربا أشد تحريم فقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}( سورة البقرة:275).، وقال تبارك وتعالى متوعداً من لم ينته عن الربا بالحرب منه سبحانه: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}( سورة البقرة:279).

وجعله النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر ومن السبع الموبقات كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري برقم(2615)؛ ومسلم برقم(89).، وجعل آكله والمعين عليه أخذا وإعطاء في الإثم والعقوبة سواء، وجعلهم ممن يستحقون اللعن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا تصلح صفقتان في صفقة وان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه))2، وكذا حرم سبحانه وتعالى ما هو شبيه به من المكاسب كحلوان الكاهن وأجرة الزانية والمغني والنائحة ونحو ذلك، ومن المعلوم أن استباحة الأموال بمثل هذه المكاسب المحرمة من أعظم الذنوب والخطايا. وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتوبة من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها والرجوع إليه سبحانه في أسرع وقت ممكن قبل فوات الأوان فقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }( سورة النساء:17-18).

فالربا من أعظم الذنوب وأكبرها بعد الشرك بالله تبارك وتعالى، ومن السبع الموبقات فتجب المبادرة بالتوبة إلى الله تبارك وتعالى منه على من كان يتعاطاه ويتعامل به.

أيها المسلمون عباد الله: وإن من المكاسب المحرمة ثمن الكلب وبيعه، ومهر البغي وحلوان الكاهن، وهو ما يجمعه من المال بسبب الكهانة لحديث أبي مسعود الأنصاري – رضي الله عنه -: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن" رواه البخاري(2122)؛ ومسلم(1567).، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: " اختلفوا في بيع الكلب المعلم فمن يرى نجاسة الكلب – وهو الشافعي – يمنع من بيعه مطلقا لأن على المنع قائمة في العلم وغيره ومن يرى بطهارته: اختلفوا في بيع المعلم منه لأن علة المنع غير عامة عند هؤلاء وقد ورد في بيع المعلم منه حديث في ثبوته بحث يحال على علم الحديث، وأما مهر البغي فهو ما يعطاها على الزنا وسمى مهرا على سبيل المجاز أو استعمالا للوضع اللغوي ويجوز أن يكون من مجاز التشبيه إن لم يكن المهر في الوضع: ما يقابل النكاح، وحلوان الكاهن هو ما يعطاه على كهانته والإجماع قائم على تحريم هذين"3، وقال الإمام النووي رحمه الله: " قال البغوي اتفق أهل العلم على تحريم حلوان الكاهن وهو ما أخذه المتكهن على كهانته لان فعل الكهانة باطل لا يجوز أخذ الأجرة عليه، وقال الماوردي رحمه الله تعالى في الأحكام السلطانية ويمنع المحتسب الناس من التكسب بالكهانة واللهو ويؤدب عليه الآخذ والمعطي وقال الخطابي رحمه الله تعالى حلوان الكاهن ما يأخذه المتكهن على كهانته وهو محرم وفعله باطل قال وحلوان العراف حرام أيضاً"4.

ومن المكاسب المحرمة يا عباد الله: التجارة في الأشياء المحرمة، التي ورد تحريمها في كتاب ربنا تبارك وتعالى وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك يا عباد الله هذه الأغاني الماجنة المنتشرة بين الناس ومن الأدلة على تحريمها في كتاب الله تبارك وتعالى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(سورة لقمان:6).، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن لهو الحديث الغناء وجعل يحلف على ذلك5، وقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ}(سورة النجم:61).، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى السمود أنه الغناء6، ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله في معرض كلامه على المكائد التي كاد بها الشيطان وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين فقال: " سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه فتمايلوا ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان، ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس، ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس، فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق وأموال في غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله وخز في صدورهم وخزاً، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزاً فطوراً يجعلهم كالحمير حول المدار… إلى آخر كلامه رحمه الله"7، ومن المعلوم في ديننا أن الله تبارك وتعالى إذا حرم شيء حرم ثمنه، فنوجه رسالة من هنا إلى كل بائعي أشرطة الأغاني، اتقوا الله تبارك وتعالى، فإن الله تبارك وتعالى قد حرم ذلك وعليكم يا عباد الله بالتجارة في الأموال المباحة التي هي حلال، حتى يبارك لكم ربكم تبارك وتعالى في تجارتكم، واجتنبوا التجارة بالمحرمات، وعليكم أن تعالموا أنه لا تزول قدم عبد يوم القيام من عند ربه تبارك وتعالى حتى يسأل عن هذا المال من أين دخل عليه، ويُسأل ذلك الذي ساهم وشرى الحرام بماله عن ماله فيما أنفقه، قال الله تبارك وتعالى:  {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} (سورة الأنفال:36).، ومن ذلك يا عباد الله بيع الأفلام الساقطة، التي تعرض التفسخ والعري ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يبيعها لناس فيبوا بالإثم والعياذ بالله لأنه تسبب في نشر الفاحشة قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(سورة النو:19).

ومن المكاسب المحرمة يا عباد الله: بيع الخمر والمسكرات، وشربها، وبيع والميتة ولحم الخنزير وأكلها وغير ذلك قال الإمام النووي رحمه الله: " وأما الميتة والخمر والخنزير : فأجمع المسلمون على تحريم بيع كل واحد منها، قال القاضي تضمن هذا الحديث أن مالا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه ولا يحل أكل ثمنه"8.

وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء: " لا يجوز المتاجرة فيما حرم الله من الأطعمة وغيرها، كالخمور والخنزير ولو مع الكفرة؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه)) رواه البخاري برقم(5754)؛ ومسلم برقم(110).، ولأنه صلى الله عليه وسلم ((لعن الخمر وشاربها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها وعاصرها ومعتصرها)) رواه البخاري برقم (3259)؛ ومسلم برقم(2365)."9.

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(سورة النحل:115).  ، قلت ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أحل لعباده ما يتبادلون به المنافع بينهم، وحرم عليهم ما يضر بهم من مكاسب شفقة بهم وحرصاً على مصلحتهم، وفتح لهم أبواب التوبة وغفر لتائبهم، وجعل للكسب الحلال طرقاً كثيرة عن الحرام تغنيهم والصلاة والسلام أشرف الخلق وأكرمهم النبي الكريم محمد بن عبد الله الصادق الأمين الذي حث أمته على الكسب الحلال وحذرهم من الكسب الحرام صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون عباد الله: ومن المكاسب المحرمة يا عباد التسول وسؤال الناس الأموال، بل ويتخذون لذلك أساليب كثيرة كذباً وزوراً حتى يُعطونهم بعض المال، فعجباً لهؤلاء الأقوام الذين يشكون خالقهم تبارك وتعالى إلى خلقه، قال الله تبارك وتعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} سورة البقرة(273).، وقد ورد في سؤال الناس أحاديث كثيرة منها حديث  أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه)) رواه البخاري برقم(1401)؛ ومسلم برقم(1042).، وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ذلك فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى وابدأ بمن تعول)) رواه مسلم برقم(1042).، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم)) رواه البخاري برقم(1405)؛ ومسلم برقم(1040).

وليس المسكين من يمد يده لناس يتكففهم فترده القمة والقمتان ولكن الفقير الحقيقي هو من لا يسأل الناس شيء، الفقير الحقيقي هو الذي لا يجد ما يغنيه ولا يفطن الناس إليه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحيي أو لا يسأل الناس إلحافا)) رواه البخاري برقم(1406).، ورواه بلفظ: ((ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس)) رواه البخاري برقم(1409).، وقد تكفل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لمن لم يسأل الناس شيئاً بالجنة، وذلك لما روي  عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له بالجنة))، فقال ثوبان: "أنا فكان لا يسأل أحدا شيئاً"10 .

أيها المؤمنون: إن السؤال لا ينبغي إلا أن يكون لله فهو الذي بيده الفقر والغنى، والله تبارك وتعالى يحب أن يُسأل ويُتضرع إليه سبحانه، فهو الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويكشف السوء عن أهل  البلاء قال الله تبارك وتعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}(سورة النمل:62).، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(سورة البقرة:186).، وسؤال الناس فيه مذلة وإهانة لنفس يا عباد الله ولقد أحسن القائل حين قال:

لا تسألن بني آدم حاجة           وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله      وبني آدم حين يسأل يغضب

أيها المؤمنون عباد الله: فلا تحل المسألة لأحد إلا من لا يجد ما يغديه ويعشيه لحديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار)). قال النفيلي وهو أحد رواته في موضع آخر : "وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟" قال : ((قدر ما يغديه ويعشيه)). وقال في موضع آخر: ((أن يكون له شبع يوم أو ليلة ويوم))11.

فعلى الإنسان أن يستغني بالله تبارك وتعالى ولا يسأل الناس شيئاً.

عباد الله: الله تبارك وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، كما أن أكل الحرام أيها المؤمنون سبب في عدم إجابة الدعاء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى وقال تعالى تم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)) رواه مسلم برقم(1015).، فلو تصدق إنسان ما بمال من حرام فإن صدقته غير مقبولة لهذا الحديث ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)) رواه مسلم برقم (224).، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما تصدق عبد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه)) رواه البخاري برقم(1344)؛ ومسلم برقم (1014).، وذكر الحديث، وقال أبو عبد الله الناجي رحمه الله : "خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله – عز وجل -، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة، لم يرتفع العمل، وذلك أنك إذا عرفت الله – عز وجل -، ولم تعرف الحق، لم تنتفع، وإذا عرفت الحق، ولم تعرف الله، لم تنتفع، وإن عرفت الله، وعرفت الحق، ولم تخلص العمل، لم تنتفع، وإن عرفت الله، وعرفت الحق، وأخلصت العمل، ولم يكن على السنة، لم تنتفع، وإن تمت الأربع، ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع"12.

وقال وهيب بن الورد: لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام"13.

أيها المؤمنون: إن سبل أكل الحرام متعددة وكثيرة جداً، لكن حسبنا أن أشرنا إلى بعضها لضيق المقام، وعلى كل من ابتلي بشيء من ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى، وعليه أن يعلم أن الله تبارك وتعالى سائله عن كل شيء، فعليه أن يراقب الله تعالى، ويقتصر على ما أحل الله تبارك وتعالى فسبله كثيرة جداً والحمد لله رب العالمين.    

عباد الله: هذا وصلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(سورة الأحزاب:56).

اللهم وفقنا لكل خير برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا أتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنظروا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. وأقم الصلاة.


1 انظر: جامع العلوم والحكم(58 – 62), لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي, دار المعرفة – بيروت, ط1، سنة النشر:  1408هـ, بتصرف يسير.

2 رواه أحمد في المسند برقم(3725) وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره وهو قسمان: موقوف ومرفوع المرفوع منه إسناده حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير سماك بن حرب فمن رجال مسلم والموقوف منه إسناده حسن, تحقق: شعيب الأرناؤوط وآخرون, مؤسسة الرسالة, ط2, سنة النشر:  1420هـ – 1999م؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم(9220)، وفي صحيح الجامع برقم(5089).

3 إحكام الأحكام(1/125), لابن دقيق العيد, دار الكتب العلمية – بيروت.

4 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (5/22), للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي, دار إحياء التراث العربي – بيروت, ط2، سنة النشر: 1392هـ.

5 تفسير القرآن العظيم(3/582), للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي, تحقق: سامي بن محمد سلامة, دار طيبة للنشر والتوزيع, ط2, سنة النشر:1420هـ – 1999م.

6 تفسير القرآن العظيم (4/332).

7 غاثة اللهفان من مصائد الشيطان(1/224), للإمام محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله, تحقيق: محمد حامد الفقي, دار المعرفة – بيروت, ط2, سنة النشر: 1395هـ – 1975م.

8 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (5/442), لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي, دار إحياء التراث العربي – بيروت, ط2, سنة النشر: 1392هـ.

9 فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(13/49), المؤلف: أحمد بن عبد الرزاق الدويش, الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء.

10 رواه أبو داود برقم(1643), تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد, دار الفكر؛ وأحمد في المسند برقم(22428) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم, رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه فمن رجال مسلم؛ والحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم(1500) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه, للإمام محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري, تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا, دار الكتب العلمية – بيروت, ط1, سنة النشر: 1411هـ – 1990م؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(813).

11 رواه أبو داود برقم(1629)؛ والبيهقي في السنن الكبرى برقم(12991), تحقيق: محمد عبد القادر عطا, مكتبة دار الباز – مكة المكرمة، سنة النشر:  1414هـ – 1994م؛ وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم(1435).

12 رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء(9/310), لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني, دار الكتاب العربي – بيروت, ط4, سنة النشر: 1405هـ.

13 رواه أبو نعيم في الحلية (8/154).