أعنِّي على نفسك بكثرة السجود

أعنِّي على نفسك بكثرة السجود

عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ  قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ1.

لقد طلب النبي  من ربيعة أن يسأله شيئاً، وفتح له باب السؤال على مصراعيه، وهو سؤال موفق بإمكان الصحابي الجليل أن يسأل متاعاً من الدنيا يحصل عليه، أو وطراً يقضى له، لكن الصحابي الجليل أراد أن يسأل شيئاً عالياً رفيعاً هو الغاية العظمى، والهدف الأسمى، فسأل رسول الله  أن يكون رفيقاً له في الجنة، فأرشده إلى كثرة السجود ليبلغ ذلك المنزل العظيم.

إنها الهمم العالية التي بلغت بأصحابها قمم الجبال، بل بلغت بهم أن لا يكون لهم مرغوب بعد الله أعظم من الجنة، فكانوا حول ذلك يدندنون، ولأجله يعملون، ولبلوغ عليائه يتنافسون، فخلف من بعدهم خلف – إلا من رحم الله – سفلت هممهم، وقلت خيراتهم، وكثر شرهم وضررهم، واشتكت الأرض إلى ربها منهم، واغتاظ البحر من معاصيهم وفجورهم، فاستأذن ربه أن يهلك كثيراً منهم فأذن له فأهلك بعضهم، وما ربك بظلام للعبيد.

جمع الصحابة الكرام ومن بعدهم بإحسان بين خوف الله والعمل، وجمعنا بين الأمن والكسل!

وهذا الصحابي الجليل  خير شاهد على ذلك، فإنه سأل رسول الله  منزلة رفيعة، فبين له رسول الله  أن بلوغ الجنة لا بد له من ثمن غالٍ، فقال له: فأعني على نفسك بكثرة السجود.

يا سلعة الرحمن لستِ رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمـن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان

إن الخضوع لله – تعالى – بكثرة السجود مما يرفع منزلة العبد عند الله – تعالى -، ومما يدل على ذلك – غير ما ذُكر – ما ثبت عن مَعْدَان بْن أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ  مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ  فَقَالَ: عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ.2

أخي: إذا أردت مرافقة النبي  في الجنة فعليك بكثرة السجود، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إقامة الصلوات فرضها ونفلها، وما أكثر الصلوات المستحبة غير المفروضة في الليل والنهار!.

وقد جاء في الأحاديث الشريفة ما يبين فضل الإكثار من الصلوات، ومن ذلك السنن الرواتب وهي: ركعتان قبل صلاة الفجر، وأربع ركعات قبل الظهر، واثنتان بعدها، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء، فعن أُمَّ حَبِيبَةَ – رضي الله عنها – قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ: مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ.

قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ، وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ.3

وفي هذا الحديث دليل على حرص السلف الصالح على أداء الرواتب بعد الصلوات، وعدم تركهن، وكثرة سجودهم لله – تعالى -، وعملهم المباشر بأقوال النبي  وأفعاله.

ومن الصلوات التي يستحب تأديتها من غير الفرائض: صلاة الضحى، فقد جاء في فضلها أحاديث عديدة، منها ما ثبت عن زيد بن أرقم  أن النبي  قال: صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ4 ومعنى حين ترمض الفصال: أي حِين يَحْتَرِق أَخْفَاف الْفِصَال، وَهِيَ الصِّغَار مِنْ أَوْلَاد الْإِبِل – جَمْع فَصِيل – مِنْ شِدَّة حَرّ الرَّمَل5. وهو وقت الضحى، وأفضله عند حر الشمس، وشدة الرمضاء، ويكون قبيل الزوال، وصلاة الضحى أقلها اثنتان، وأكثرها ثمان ركعات.

ومن الصلوات المستحبة: صلاة الوتر، وقيام الليل، وقد جاء فيها من الأحاديث والآثار شيئاً كثيراً، ومن ذلك قوله : صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى6.

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ  ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِي بِاللَّيْلِ.7

ومن الصلوات التي يحافظ المرء عليها: صلاة النوافل المطلقة كالصلاة بعد ارتفاع الشمس إلى قبل الزوال، وكالصلاة بعد الظهر إلى العصر، وكالصلاة بين المغرب والعشاء، وكذا بعد صلاة العشاء إلى الفجر، كلها أوقات فضيلة يجوز فيها التعبد ويستحب.

ولا يصلي المرء في الأوقات التي نهى الشارع عن الصلاة فيها وهي: بعد صلاة الفجر إلى قبل ارتفاع الشمس قيد رمح، وعند زوال الشمس عن وسط السماء قبل الظهر حتى تزول، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، إلا ذوات الأسباب، فلا بأس بأدائهن في تلك الأوقات.

فهذه الرواتب، والسنن، والنوافل؛ لو قام بها الإنسان بعد أداء الفرائض والواجبات لكان من المكثرين إن شاء الله، وكان على خير كبير مع صحة عقيدة، وحسن أخلاق، وإخلاص في تلك الأعمال لله رب العالمين، ويرجى له اللحاق بالصالحين، ومرافقة النبيين؛ كما سأل ذلك ربيعة الأسلمي من رسول الله .

نسأل الله أن يعيننا على التفرغ لطاعته وعبادته، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين.


1– رواه مسلم وأبو داود والنسائي.

2– رواه مسلم في صحيحه.

3– رواه مسلم في صحيحه.

4– رواه مسلم في صحيحه.

5– شرح النووي على مسلم (3 /88).

6– رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

7– رواه البخاري في الصحيح.