صلة الأرحام

صلة الأرحام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم .. أما بعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله – تعالى – حق التقوى، واتبعوا ما جاءكم به رسوله  من الدين والشرع القويم، فإن في اتباع الرسول  الفلاح والعاقبة المرضية، وفي مخالفة أمره الشقاء والعذاب الشديد .. وكان مما جاء به الرسول  من ديننا الحنيف، ومما هو من الأمور المطلوبة شرعاً، وعرفاً، وضميراً: صلة الأرحام، وقد دلت الآيات والأحاديث على وجوب الصلة، وحرمة قطع الأرحام، وفضيلة الإحسان إليهم، وقد أخذ اسم الرحم من الرحمة؛ لأن الأرحام يرق لهن، ويعطف عليهن .. مدح الله – تعالى – الواصلين ما أمر الله به أن يوصل فقال: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ1 وذم القاطعين ذماً شديداً فقال: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ2، وقال – سبحانه – مهدداً المفسدين في الأرض، وقاطعي الأرحام: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ۝أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ3. ووصّى الله – تعالى – بذوي الأرحام خيراًَ فقال: وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا4 وقال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا5 وقال – سبحانه -:إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ6 فهذه آيات كريمات تأمر بالصلة، وتنهى عن قطيعة الأرحام، فهل عقلتم الخطاب عن ربكم يا مسلمون؟ أم أن بعض الناس لأرحامهم قاطعون، وهم في غيهم يعمهون، وفي معاصي ربهم يترددون، وعن شرعه يصدون، وعن أوامره لاهون غافلون؟! وإلى جانب الآيات القرآنية جاءت الأحاديث النبوية تؤكد هذا الأمر، وتجعله من أعلى أخلاق الإسلام التي جاء بها، ورسول الله  قدوتنا في ذلك، فقد أمر بالإحسان إلى الأرحام، وكان أفضل الناس صلة، ومما ثبت عنه قوله: الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله7، وقال: صلة الرحم، وحسن الجوار – أو حسن الخلق -؛ يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار8، وعن أنس بن مالك  قال: قال رسول الله : إن الرحم شجنة متمسكة بالعرش، تَكلَّم بلسان ذلْق: اللهم صِلْ من وصلني، واقطع من قطعني، فيقول الله – تبارك وتعالى -: أنا الرحيم الرحمن، وإني شققت للرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن نكثها نكثته9،10، كما ثبت عنه  أنه قال: إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه قامت الرَّحِمُ فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: “نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟” قالت: بلى يا رب، قال: “فذاك لك” ثم قال رسول الله : اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ11. ولما سأل هرقلُ أبا سفيان – قبل أن يسلم وكان في تجارة في بلاد الشام – عن صفات النبي  وبماذا يأمرهم؟ قال: يقول: “اعبدوا الله، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة …” الحديث12، فكانت الدعوة إلى صلة الأرحام من أول ما دعا إليه رسول الله ، وجاء رجل إلى رسول الله  فقال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ما له ما له! فقال النبي : أَرَبٌ ما له! تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرَّحِم13، وكان هذا مما يوصي به رسول الله  أصحابه، فقد ورد عن أبي ذر  أنه قال: أوصاني خليلي: أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وأوصاني بصلة الرحم وإن أدبرَتْ14. عباد الله: إن صلة الرحم سبب في زيادة العمر، وكثرة المال؛ هذا وعد من الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، حيث ثبت عنه من حديث أنس بن مالك  أنه قال: من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصِلْ رَحِمَه15، وفي حديث مشابه له عن علي بن أبي طالب : قال رسول الله  : من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء؛ فليتق الله، وليصل رحمه16 ، وبيَّن أن ثواب صلة الرحم أعجل شيء يناله المرء حيث قال: ليس شيء أُطِيعَ اللهُ فيه أعجل ثواباً من صلة الرَّحِم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع17. وقد بيَّن النبي  أن الوصل الحقيقي هو الذي يكون من الإنسان عندما تقطعه رحمه، أما الذي يصل من وصله فهو مكافئ لذلك المعروف فحسب، وهذا وإن كان من الصلة إلا أن من وصل أقاربه القاطعين له كان أجره أعلى وأعظم، ولهذا قال رسول الله : ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكن الواصلَ الذي إذا قَطَعت رَحمُه وصلها18 بل وصل الأمر بهذا الدين العظيم أنه حث على صلة الرحم ولو كانت كافرة فعن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها – قالت: قدِمَتْ أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي  مع أبيها، فاستفتيت النبي  فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة – يعني في صلتها – أفأصلها؟ قال: نعم، صِلي أمك19 ... والآيات والأحاديث كثيرة في الأمر بصلة الأرحام، وفضيلة ذلك.

عباد الله: هذه منزلة صلة الأرحام في دينكم، فهل أنتم عند حدود الله واقفون؟ ولأوامره فاعلون؟ ولزواجره تاركون؟ هل وصلتم الأرحام وزرتم الأقارب، وهل استسمحتموهم من التقصير في قلة الصلة، وقسوة القلب تجاههم؟ فيا من تريد الخير في الدنيا والآخرة صل رحمك، وتعهدهم دائماً، ولا تقطع عنهم يداً، وتذكر دائماً الأجر في صلتهم، وحسن رعايتهم.. وفق الله الجميع للقيام بالحقوق على أتم وجه، وأكمل طريق، واستغفروا الله العظيم.  الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أما بعد: عباد الله: تقدمت الآيات والأحاديث في فضيلة صلة الرحم، والأمر بذلك، ولقد كان رسول الله  المثل البشري الأعلى في العمل بمثل تلك الأوامر، وذلك من خلال ما اشتهر به من الصلة والرحمة والكرم وغير ذلك، ولما نزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 20 دعا رسول الله قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص فقال: يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها رواه مسلم، فهذا رسول الله  يصل الرحم ولو كانت كافرة، وقوله: سأبلها ببلالها شبه الصلة ببلل الماء: لأن بعض الأشياء إذا بلت اتصلت، وإذا يبست انفصلت21، والمقصود تشبيه الصلة بالبلل الذي يدل على رخاء الأرض، ومنهم من قال: شَبَّه قطيعة الرحم بالحرارة، ووصْلَها بإطفاء الحرارة ببرودة.22

وقال عن ابنته فاطمة – رضي الله عنها -: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني23رواه البخاري ومسلم.

أما أقوال السلف الصالح ومآثرهم فقد تعددت في بيان أهمية الصلة قال عمر : “تعلموا أنسابكم، ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكونن بين الرجل وبين أخيه شيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم لأوزعه ذلك عن انتهاكه”24، وقال عطاء بن أبي رباح: “لَدِرهمٌ أضعه في قرابتي أحب إلي من ألفٍ أضعها في فاقة، قال له قائل: يا أبا محمد وإن كان قرابتي مثلي في الغنى؟ قال: وإن كانوا أغنى منك!”25، وقال سعيد بن المسيب – رحمه الله – وقد ترك دنانير: “اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها ديني وحسبي، لا خير فيمن لا يجمع المال فيقضي دينه، ويصل رحمه، ويكف به وجهه”26، وقال عمرو بن دينار: “تعلمُنَّ أنه ما من خطوة بعد الفريضة أعظم أجراً من خطوة إلى ذي رحم”، وقال سليمان بن موسى: قيل لعبد الله بن محيريز: ما حق الرحم؟ قال: “تُستقبَلُ إذا أقبلت، وتُتبعُ إذا أدبرت”27، وأقوال السلف الصالح في هذا كثيرة.. ولكن يكفينا إشارات نفهم بها المقصود.

أيها المسلمون: هل تعلمون ما هي الثمرات من صلة الأرحام؟! إن هناك بشائر في الدنيا، وبشائر في الآخرة.. نشير إليها:

– صلة الأرحام علامة كمال الإيمان، وحسن الإسلام.

– صلة الأرحام سبب في سعة الرزق، والبركة في العمر.

– صلة الأرحام تكسب العبد رضا الله عنه.

– صلة الأرحام تقوي العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة، والأسر المرتبطة بالمصاهرة والنسب، حتى يعم ذلك المجتمع كله28.

– أنها سبب في حسن الخاتمة؛ لأن الصلة إحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

اللهم أعنَّا على القيام بصلة الأرحام، إنك على كل شيء قدير.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1– (سورة الرعد:21).

2– (سورة الرعد:25).

3– (سورة محمد:22-23).

4– (سورة النساء:1).

5– (سورة الإسراء:26).

6– (سورة النحل:90).

7– رواه البخاري ومسلم.

8– رواه أحمد وغيره، ورجاله ثقات كما قال ابن حجر في الفتح ( 10-429 ).

9– الشجنة هي غصن الشجر، والمقصود هنا:  قرابة مشتركة كاشتباك العروق.

10– أخرجه البخاري في الأدب المفرد وله أصل في صحيحه كما سيأتي في الحديث بعده.

11– (سورة محمد:22 -23). والحديث رواه البخاري ومسلم.

12– رواه البخاري ومسلم.

13– رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري.

14– ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8-154) ورجاله ثقات كلهم.

15– رواه البخاري ومسلم.

16– رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في (زوائد المسند) وصححه أحمد شاكر وذكر الهيثمي أن رجاله ثقات.

17– رواه البيهقي في السنن الكبرى وصححه الألباني في صحيح الجامع (5391).

18– رواه البخاري.

19– رواه البخاري.

20-(سورة الشعراء:214)

21– هذا مضمون ما ذكره السندي عند شرحه لهذا الحديث في سنن النسائي رقم الحديث (3584).

22– ذكر ذلك النووي في شرح مسلم عند حديث رقم (204).

23– البضعة: القطعة من اللحم.

24– تفسير الطبري (1-144).

25– (مكارم الأخلاق) لابن أبي الدنيا صـ 62 .

26– (الآداب الشرعية) لابن مفلح ( 3-269 ).

27– انظر القولين في ( مكارم الأخلاق) صـ 62 و 64 .

28– انظر (نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم)صـ 2632.