المحرومون في رمضان

المحرومون في رمضان

 

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون، وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:

أيها الإخوة الكرام: طالما حدثنا أنفسنا باغتنام فرصة رمضان، ولطالما عاهدنا أنفسنا قبل دخوله بأوبةٍ حقةٍ، وتوبةٍ صادقةٍ، ودمعةٍ حارةٍ، ونفسٍ متشوقةٍ، ولكن كلما أتى قضى الشيطان على الأمنية، وخاست النفسُ الأمارةُ بالسوء بعهدها وغدرت، فثابت ليالٍ ورجعت أيام ثم عادت لسالف عهدها كان لم تغن بنور رمضان وضيائه.

وها نحن-أيها الأحبة في الله- يطالعنا شهرٌ وموسمٌ من الخير جديد فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانُك هذه المرة؟! هل هو رمضانُ المسوفين الكسالى، أم رمضان المسارعين المجدين؟! هل هو رمضان التوبة أم رمضان الشِقِوة، هل هو شهرُ النعمةِ أم شهرُ النقمة؟! هل هو شهر الصيام والقيام، أم شهر الموائد والأفلام والهيام؟! هذا ما يعتلج بالفؤاد ويدور بالخلد؟!

ولقد فزع كثير من المسلمين لصيام رمضان المبارك وقيامه، وقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ ابتغاء ذلك الأجر العظيم، والخير العميم، فامتلأت المساجد بالمصلين، وضجت بأصوات التالين، وجعل الناس يهنئ بعضهم بعضًا بإدراك هذا الشهر الكريم..ولكن هل هذا هو حال كل من أدرك رمضان، أم هناك أناس آخرون غير هؤلاء؟!

كل هذا الشوق وكل هذا الحنين ومع ذلك فهناك من يحرم رمضان ويخسر فضله وأجره والعياذ بالله، وربما لم يشعر ذلك المحروم بلذة الصيام والقيام ولا يعرف من رمضان إلا الجوع والعطش فأي حرمان بعد هذا الحرمان! نعوذ بالله من الخسران.

لماذا إذاً نحرم رمضان؟ سؤال يحتاج إلى إجابة. أليس الله يقول: {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (64) سورة البقرة. لكني أذكركم وأحذركم من أمور ربما كانت سبباً لخسارة رمضان وحرمان الأجر والثواب في رمضان من دون أن نشعر، فإياكم إياك من أن نحرم رمضان.

إن من الناس خلقاً كثيراً خاسرين، استفادوا من رمضان قليلاً، وخسروا فيه كثيرًا {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ*عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ*تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}(2-4) سورة الغاشية. فمع عملها وتعبها هي في النار، فأي خسارة أعظم من تلك الخسارة؟!

غدًا توفى النفوس ما عملت إن أحسـنوا أحسنو لأنفسهم

 

 

ويحصد الزارعون ما زرعوا أسـاءوا وإن فبئس مـــا صنعــــوا

 

ولقد صح عن رسول الله أنه صَعِد المنبر فقال: (آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ) قيل: يا رسول الله إنك حين صعدت المنبر قلت: آمِينَ آمِينَ آمِينَ قال: (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمين، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمين، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمين، فَقُلْتُ: آمِينَ)1

فيا ترى من هؤلاء الخاسرون الذين يدعو عليهم رسول الله وجبريل عليهما الصلاة والسلام، فيكون شهر رمضان نقمة عليهم، وسببًا لحرمانهم الثواب، ودخولهم النار؟

إن هذا الصنف من الناس هم أهل القلوب القاسية، الذين لا يزيدهم رمضان من الله إلا بعدًا، ولا تزيدهم بشائر الرحمن إلا صدًا، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (41) سورة المائدة.

إنهم الذين إذا أدركوا رمضان، بادروا ببعض الأعمال، ولكنها لا تتغير منهم الأحوال، فيصبح الواحد منهم في شوال كما كان في شعبان، فحق عليه ذاك الدعاء العظيم بدخول الناس إذا أدرك رمضان فلم يغفر له.

إنهم الذين تركوا الصلوات، وانتهكوا المحرمات، وقضوا على أوقاتهم بالتفاهات.

إنهم من قضوا أوقاتهم في مشاهدة الأفلام والمسلسلات والمقامرات أما شاشات القنوات، ويجاهرون الخالق بالمنكرات.

إنهم الذين يسوفون الباقيات الصالحات، ويقترفون المعاصي والمحرمات، ولا يبالون بالمحقرات.

ومن المحرومين في رمضان: الذين لا يؤدون الصلاة مع الجماعة ويتساهلون فيها، ويضيعون أوقاتهم في الاستراحات والجلسات والملاحق، وفي التسكعات في الشوارع والأسواق.

ومن المحرومين في رمضان: الذين يؤذون الناس ويجلسون على الأرصفة للمعاكسات وفي الأسواق أو الهواتف، ومن يجالسون جلساء السوء وأصحاب الهمم الدنيئة.

ومن أعظم المحرومين في شهر رمضان من حرم ليلة القدر وخيرها، فقد جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم)2

ومن المحرومين -أيضاً- الذين يشربون الدخان والشيشة وهي من الأشياء المحرمة التي استمرأها الناس. ويأكلون الحرام ومنه الربا والغش والسرقة، التزييف والخداع والنجش والحلف الكاذب، والمنساقين اللاهثين وراء التجارة وكسب المال إلى حد التفريط في الواجبات.

والمحروم في رمضان -أيضاً- المتهاون ببعض الذنوب والمتعود عليها كحلق اللحية وإسبال الثوب وهو المسكين لا يعدها ذنباً وهي محسوبة عليه، والمفَرِط في آفات اللسان كالسباب والشتائم والغيبة وبذاءة اللسان والكذب {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (18) سورة ق.

أيها الإخوة في الله: ومن أسباب الحرمان في رمضان التساهل وعدم الجدية ويتضح هذا في كثرة الضحك والتعليق وربما السخرية والاستهزاء.

والظلم فمهما كان لك أعمال صالحة، ومهما حرمت في رمضان فمادمت ظالماً أخذت منك هذه الحسنات على قدر مظلمتك، وكذلك التفريط في النوافل عامة (صدقات- قراءة قران- العمرة- السواك- وركعتي الضحى- وقيام الليل والتراويح- وتفطير صائم) والغفلة عن الغنيمة الخفيفة (الذكر- الدعاء- الاستغفار) فقد حُرم منه كثير من المسلمين.

ومن الأسباب: التقصير في حق الوالدين والزوجة والأولاد وعدم القيام بحقهم. ومن أهم الأسباب التي يخسر بها المسلم رمضان الجهل أو التجاهل بفضائل رمضان وعظمته والغفلة عن الموت ونسيانه.

أيها الأحباب: رمضان شهر النفحات والبركات: فلماذا لا نقوم رمضان؟ لماذا لا نجرب لذة القرآن، ولذة المناجاة والدعاء؟ لماذا لا نجرب وقت الأسحار وهجيع الليل؟ لماذا لا ننطرح بين يدي مولانا، فربنا ينزل في ثلث الليل الأخير نزولاً يليق بجلاله وعظمته يعرض نفحاته ورحماته، فلماذا لا نتعرض لرحمات الله!!

 

 قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم* إلا كنومة حـائر ولهـان

فلربما تأتى المنيـة بغتـــة * فتساق من فرش إلى أكفـان

يا حبذا عينان في غسق الدجى * من خشية الرحمن باكيتـان

فالله ينـزل كُلَ آخـر ليـلـة * لسمائه الدنيا بلا نـكـران

فيقولُ هل من سائـلٍ فأجيبَـه * فأنا القريبُ أجيبُ منْ ناداني

 

ولكن يا حسرةً على المحرومين، ويا حسرةً على المفتونين الذين يجعلون وقت السحر ووقت الاستغفار وقت نزول الإلهي فرصةً للعب واللهو ومشاهدة القنوات وتقليب الأبصار في الغانياتِ والمومساتِ، يا حسرةً على العباد!.3

أيها المؤمنون: هاهو هلال رمضان قد حل، ووجه سعده قد طل، رمضان هل هلاله، وخيمت ظلاله، وهيمن جلاله، وسطع جماله، لقد أظلنا موسم كريم الفضائل، عظيم الهبات والنوائل، جليل الفوائد والمكارم.

جعل الله صيامنا صياماً حقيقيا مقبولاً، وجعل صيامه إيمانا واحتسابا، إيمانا بما عنده، واحتسابا لثوابه، كما أسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين ممن صام الشهر، واستكمل الأجر، وفاز بليلة القدر، كما أسأله أن يجعلنا ممن يصومونه ويقومونه إيماناً واحتساباً. اللهم اكتب صيامنا في عداد الصائمين وقيامنا في عداد القائمين، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


1 رواه ابن حبان في صحيحه برقم (907)، قال الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح الترغيب والترهيب(997).

2 رواه النسائي (2106) وصححه الألباني، انظر حديث رقم: 55 في صحيح الجامع.

3 بعض ما سبق من الموضوع مستفاد من مقال للشيخ: محمد بن إبراهيم بعنوان "أي رمضان رمضانك"، المصدر: www.majdah.net بتصرف.