آداب الصيام الواجبة

آداب الصيام الواجبة

 

الحمد لله الذي أرشد الخلق إلى أكمل الآداب، وفتح لهم من خزائن رحمته وجوده كل باب، أنار بصائر المؤمنين فأدركوا الحقائق، وطلبوا الثواب، وأعمى بصائر المعرضين عن طاعته فصار بينهم وبين نوره حجاب، هدى أولئك بفضله ورحمته، وأضل الآخرين بعدله وحكمته {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ}1، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العزيز الوهاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بأَجَلِّ العبادات، وأكمل الآداب، صلى الله عليه وعلى جميع الآل والأصحاب، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب، وسلم تسليماً، أما بعد:

فإن الأدب عنوان فلاح المرء، ومناط سعادته في الدنيا والآخرة، وأكمل الأدب وأعظمه هو الأدب مع الله – جل وعلا – بتعظيم أمره ونهيه والقيام بحقه، ومعلوم أن لكل عبادة أدب، فالصلاة لها أدب، والحج له أدب، والصوم كذلك له آداب عظيمة لا يستقيم إلا بها، ولا يكمل إلا باستحضارها.

وهي على قسمين:

  آداب واجبة لا بد للصائم من مراعاتها والمحافظة عليها.

  وآداب مستحبة لا ينبغي إغفالها والتهاون بها.

ولعلنا في هذه المقالة نقتصر على الآداب الواجبة التي ينبغي على الصائم أن يتحلى بها، والتي لو تساهل أو تهاون بها خدشت في صيامه، وأنقصت من أجره.

فمن الآداب الواجبة:

أن يقوم الصائم بما أوجب الله عليه من العبادات القولية والفعلية، ومن أهمها: الصلاة المفروضة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، فتجب مراعاتها بالمحافظة عليها، والقيام بأركانها وواجباتها وشروطها، فيؤديها في وقتها مع الجماعة في المساجد، فإن ذلك من التقوى التي من أجلها شُرِع الصيام، وفُرِض على الأمة، وإضاعة الصلاة مُنَافٍ للتقوى وموجب للعقوبة يقول سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}2، ومن الصائمين من يتهاون بصلاة الجماعة مع وجوبها عليه، وقد أمر الله بها في كتابه فقال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} يعني: أتموا صلاتهم {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}3، فأمر الله بالصلاة مع الجماعة في حال القتال والخوف، ففي حال الطمأنينة والأمن أَوْلَى، ولا أدل على ذلك من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – "أن رجلا ًأعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فرخص له، فلما وَلَّى دعاه وقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم. قال : ((فأجب))4، فلم يُرَخِّص له النبي – صلى الله عليه وسلم – في ترك الجماعة، مع أنه رجل أعمى وليس له قائد.

وتارك الجماعة مع إضاعته الواجب قد حرم نفسه خيراً كثيراً من مضاعفة الحسنات، فإن صلاة الجماعة مضاعفة كما في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة))5، وفوت المصالح الاجتماعية التي تحصل للمسلمين باجتماعهم على الصلاة من غرس المحبة والألفة، وتعليم الجاهل، ومساعدة المحتاج وغير ذلك.

وبترك الجماعة يعرض نفسه للعقوبة ومشابهة المنافقين فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْواً، وقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معي معهم حِزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار))6، وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادَى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، قال: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف"7.

ومن الصائمين من يتجاوز بالأمر فينام عن الصلاة في وقتها، وهذا من أعظم المنكرات، وأشد الإضاعة للصلوات حتى قال كثير من العلماء: "إن من أخر الصلاة عن وقتها بدون عذر شرعي لم يقبل وإن صلى مئة مرة لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))8، والصلاة بعد وقتها ليس عليها أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – فتكون مردودة غير مقبولة".

ومن الآداب الواجبة: أن يجتنب الصائم جميع ما حرم الله ورسوله من الأقوال والأفعال، فيجتنب الكذب وهو الإخبار بخلاف الواقع، وأعظمه الكذب على الله ورسوله، كأن ينسب إلى الله أو إلى رسوله تحليل حرام أو تحريم حلال قال الله – تعالى -: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}9، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – وغيره أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))10، وحذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الكذب فقال: ((إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكْتَب عند الله كذاباً))11.

ويجتنب الغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، سواء ذكرته بما يكره في خلقته كالأعرج، والأعور، والأعمى على سبيل العيب والذم، أو بما يكره في خُلُقه كالأحمق، والسفيه، والفاسق ونحوه، وسواء كان فيه ما تقول أم لم يكن؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل عن الغيبة فقال: ((هي ذكرك أخاك بما يكره)) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ))12، ولقد نهى الله عن الغيبة في القرآن وشبَّهَهَا بأبشع صورة، شبَّهَهَا بالرجل يأكل لحم أخيه ميتاً يقول – سبحانه -: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}13، وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه ((مر ليلة المعراج بقوم لهم أظافر من نُحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)).

ويجتنب النميمة وهي: نقل كلام شخص في شخص إليه ليُفسد بينهما، وهي من كبائر الذنوب حيث قال فيها رسول – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنة نمام))14، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرَّ بقبرين فقال: ((إنهما لَيعذَّبان وما يعذَّبان في كبير – أي : في أمر شاق عليهما -، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة))،15والنميمة فساد للفرد والمجتمع، وتفريق بين المسلمين، وإلقاء للعداوة بينهم {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}16فمن نَمَّ إليك نَمَّ فيك فاحذره.

ويجتنب: الغش في جميع المعاملات من بيع وإجارة، وصناعة ورهن وغيرها، وفي جميع المناصحات والمشورات، فإن الغش من كبائر الذنوب، وقد تبرأ النبي – صلى الله عليه وسلم – من فاعله فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((من غشنا فليس منا))17، وفي لفظ: ((من غش فليس مني))18، والغش: خديعة وخيانة، وضياع للأمانة وفقد للثقة بين الناس، وكل كسب من الغش فإنه كسب خبيث حرام لا يزيد صاحبَه إلا بعداً من الله.

يقول أبو سليمان الدارانى: "لأن أصوم النهار، وأفطر الليل على لقمة حلال؛ أحب إلى من قيام الليل والنهار، وحرام على شمس التوحيد أن تحل قلب عبد في جوفه لقمة حرام"، ولاسيما في وقت الصيام، فليجتنب الصائم أكل الحرام فإنه سم مهلك للدين.19

ويجتنب: المعازف وهي آلات اللهو بجميع أنواعها كالعود والربابة، والقانون والكمنجة، والبيانو والكمان وغيرها، فإن هذه حرام، وتزداد تحريماً وإثما إذا اقترنت بالغناء بأصوات جميلة وأغاني مثيرة قال – تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}20، وصح عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه سئل عن هذه الآية فقال: "والله الذي لا إله غيره هو الغناء"، وصح أيضاً عن ابن عباس وابن عمر، وذكره ابن كثير عن جابر وعكرمة وسعيد بن جُبَيْر ومجاهد، وقال الحسن: "نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير"، وقد حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من المعازف وقَرَنَهَا بالزنا فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحِلُّون الْحِر والحرير، والخمر والمعازف))21 فالحر: الفرج والمراد به الزنا، ومعنى يستحلون أي: يفعلونها فعل المستحل لها بدون مبالاة، وقد وقع هذا في زمننا فكان في الناس من يستعمل هذه المعازف أو يستمعها كأنها شيء حلال، وهذا مما نجح فيه أعداء الإسلام بكيدهم للمسلمين حتى صدّوهم عن ذكر الله، ومهامِّ دينهم ودنياهم، وأصبح كثير منهم يستمعون إلى ذلك أكثر مما يستمعون إلى قراءة القرآن والأحاديث، وكلام أهل العلم المتضمن لبيان أحكام الشريعة وحكمها.22

فاحذروا أيها المسلمون نواقض الصوم ونواقصه، وصُونوه عن قول الزور والعمل به قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))23، وقال جابر – رضي الله عنه -: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء"24.

اللهم احفظ علينا ديننا، وكف جوارحنا عما يغضبك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 سورة الزمر (21).

2 سورة مريم (59-60).

3 سورة النساء (102).

4 رواه مسلم برقم (1044).

5 رواه البخاري برقم (609)، ومسلم برقم (1038).

6 رواه مسلم برقم (1041)، والبخاري بلفظ مقارب له.

7 أورده مسلم موقوفاً عن ابن مسعود برقم (1046).

8 رواه مسلم برقم (3243).

9 سورة النحل (116-117).

10 رواه البخاري برقم (107)، ومسلم برقم (4).

11 رواه مسلم برقم (4721).

12 رواه مسلم  برقم (4690).

13 سورة الحجرات (12).

14 رواه مسلم برقم (151).

15 رواه البخاري برقم (211)، ومسلم برقم (439).

16 سورة القلم (10-11).

17 رواه مسلم برقم (146).

18 أيضاً رواه مسلم برقم (147).

 19تفسير حقي عند تفسيره لآية (185) سورة البقرة.

20 سورة لقمان (6).

21 رواه البخاري معلقاً باب ما جاء فيمن يشرب الخمر ويسميه بغير اسمه.

22 مجالس رمضان لابن عثيمين

23 رواه البخاري برقم (1770).

24 الزهد لابن المبارك (1/156).