العمرة في رمضان

العمرة في رمضان

 

الحمد لله الذي فتح لنا أبواب الطاعات، وشرع لعباده ما شاء من روح القربات، جازى على القليل كثيراً، وأغدق في  الدرجات، وأصلي وأسلم على خير خلقه نبينا محمد – عليه الصلاة والسلام – منبع الخيرات، وعلى آله وصحبه أجمعين ما ترنم مترنم بالآيات، أما بعد:

أيها الأخ المسلم الكريم: إن الله – عز وجل – جعل لنا من الأعمال الفاضلة، والطاعات العظيمة؛ ما تقر به الأنفس، وتهنأ به الصدور، مضمار يتسابق فيه المتسابقون، ومرتع يتنافس فيه المتنافسون، طمعاً في رضوان الله ورحمته، ورجاء في بلوغ جنته، والأمن من سخطه وعقوبته.

وإن رمضان موسم من مواسم النفحات العظيمة لمن أراد النجاة، وسعى إلى فكاك رقبته من النار، وفي هذا الشهر تتنوع الطاعات، وتتنزل الرحمات، وتتضاعف الحسنات، ومن الأعمال التي ينبغي القيام بها في هذا الشهر المبارك، ورتب الله لمن قام بها فضلاً عظيماً، وثواباً جزيلاً "العمرة إلى بيت الله الحرام" جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((العمرة إلى العمرة، ورمضان كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))1.

وهذا الفضل العظيم للعمرة عام في كل حين، وأما في رمضان فإن فضلها يتضاعف حتى قال علماء الأحناف بندبها في هذا الشهر خاصة لحديث ابن عباس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لامرأة من الأنصار: ((ما منعك أن تحجي))، قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه – لزوجها وابنها -، وترك ناضحاً ننضح عليه، قال: ((فإذا كان رمضان فاعتمري فيه فإن عمرة في رمضان حجة))، وفي رواية ((فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي))2.

وياله من فوز أن تكون كمن حج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوقف معه بعرفة، وبات معه بمزدلفة، وأفاض بصحبته إلى منى، وطاف بجواره وسعى كما هو مفهوم من ظاهر هذا الحديث.

وإن مما يثلج الصدر أن نرى إقبال المسلمين على العمرة في هذا الشهر الفاضل، ولكن هناك بعض التنبيهات يحسن الالتفات إليها، ولا بد من مراعتها ومنها:

·   أن البعض يسافر إلى العمرة بنساء ليس معهن محرم لهن، وهذا مما عمت به البلوى في زماننا، والأصل الحرمة في ذلك، وعدم جوازه لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل معها رجل إلا وهو لها محرم))، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: ((اخرج معها))3.

فهذا الرجل أمره – صلى الله عليه وسلم – أن يترك الجيش ويرجع ليذهب مع امرأته، وهو من باب أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والله – عز وجل – يعلم نية المرأه ورغبتها في العمرة، وإنما منعها طاعة الله – عز وجل -، وطاعة رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم -.

·   أن بعض المعتمرين يهملون رعيتهم التي استرعاهم الله إياهم بتركهم في البلاد التي هم منها، والبعد عنهم مدة طويلة، فيضيع الأولاد، وتختل تربيتهم – تهمل المرأة، ويقصر زوجها -، والبيت بحاجة إلى راعي فيه يأمر بالمعروف، ويوقظ أهل البيت للصلاة، وينهى عن المنكر فيه، ويسوسه ويرعاه.

وهناك نوع ثاني من الإهمال والتفريط: من يذهب بأهل بيته جميعاً معه من زوجة وبنات وأبناء ثم يترك لهم الحبل على الغارب، لا ضابط لدخولهم وخروجهم، فتحدث مفاسد عظيمة لا يعلمها إلا الله – عز وجل – في هذه البقعة المباركة التي قال الله عنها: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}4، وفي الصحيح عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: وذكر منهم ((ملحد في الحرم))"5، وعن ابن مسعود مرفوعاً "لو أن رجلاً هم فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً".

وغالب من يسافر إلى هناك يرى من تصرفات المراهقين والمراهقات والناس عموماً ما يندى له الجبين، وينزف له القلب بسبب الإهمال، وعدم وجود الرقيب، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول، فيحرص ولي الأمر على أسرته، والحذر من أن تكون إقامته واعتكافه في الحرم إنما يجنى من جرائه الإثم والوزر؛ بسبب من يعول.

والأولى والأحسن والأتم في ذلك كله أن يذهب الأب وأهل بيته سواء لأداء العمرة، ثم يعودون إلى ديارهم بعد انتهائها مباشرة، فيكون الأب قد جمع الحسنيين من عمرة له ولأهل بيته، وتعويدهم على فعل الطاعات، وأهم من ذلك محافظته على فلذات الأكباد.

·   البعض من أئمة المساجد ومن المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والوعاظ الموجهين؛ يتركون ثغورهم، ويأمون مكة ليعتمروا، ويقضوا العشر الأواخر هناك، ولا ريب أن من كان مرتبطاً بإقامة أو وعظ أو وظيفة يحتاج إليها المسلمون فإن الأوجب في حقه أن يبقى على ثغرة، فإن في ذلك من تحصيل المصالح المتعدية خيراً كثيراً، وإن أبى إلا الذهاب إلى العمرة فليكن ذلك في مدة وجيزة يوم أو يومين، ثم يعود بعدها إلى مكانه، فإن من غير الحسن أن تخلو المساجد وغيرها من الوعاظ والمرشدين والأئمة المؤثرين في هذا الزمن الفاضل، وخاصة العشر الأواخر، فلينتبه الحريصين على الخير إلى ذلك، ولينظروا إلى الأمور بميزان عادل.

·   تكرار العمرة: ولم يكن على ذلك هدى السلف الصالح – رضوان الله عليهم -، ولكن لا تثريب على من فعله، ولا نحجر على الناس واسعاً، وقد فصل ابن قدامة ما يستحب فيه الإكثار فقال: قال علي – رضي الله عنه – في كل شهر مرة، وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر، وقال عكرمة: يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره، وقال عطاء: إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين، وقال أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس6، وقال الشافعي: إن قدر أن يعتمر في الشهر مرتين أو ثلاثاً أحببت له ذلك7، والمشهور عند المالكية: يكره تكرار العمرة في السنة مرتين، وهو قول الحسن وابن سيرين، وتندب الزيادة على المرة لكن في عام آخر، والمراد بالتكرار في العام السنة الهجرية، فلو اعتمر في ذي القعدة ثم في المحرم لا يكره؛ لأنه اعتمر في السنة الثانية، ومحل كراهة التكرار في العام الواحد ما لم يتكرر دخول مكة من موضع عليه فيه إحرام، كما لو خرج مع الحجيج ثم رجع إلى مكة قبل أشهر الحج فإنه يحرم بعمرة؛ لأن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه، وقد استدل المالكية بأنه – عليه الصلاة والسلام – لم يكررها في عام واحد مع قدرته على ذلك.8

والخلاصة فيما يتعلق في تكرار العمرة إذا كانت في أسفار متعددة فلا حرج فيه، فلو أن إنساناً سافر ثم رجع مع أصدقائه، وبعد يومين أو ثلاثة سافر وأهله إلى مكة فذهب معهم فيستحب أن يحرم لعمرة حينئذ.

نسأل أن يكتب لنا عمرة في شهره الكريم إنه جواد كريم، وبالإجابة جدير، والصلاة والسلام على النذير البشير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري برقم (1650)، ومسلم برقم (2403).

2 رواه مسلم برقم (2201).

3 رواه البخاري برقم (1729).

4 سورة الحج (25).

5 رواه البخاري برقم (3674).

6 المغني (3/226).

7 المجموع (7/136).

8 شرح الرسالة وحاشية العدوي (1/428).