السرعة في القرآن لأجل الختم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله تعالى أنزل الكتاب العزيز للعمل به، وتلاوته حق تلاوته، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وهو الحبل المتين بين الله وبين المؤمن؛ فمن قطع هذه الصلة قطعه الله.
إن التدبر لكلام الله تعالى من أسمى الغايات التي أنزل الله القرآن من أجلها كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (سورة القمر:17)، ومن الأسباب الداعية إلى التفكر في كلام الله سبحانه قراءة القرآن بتأنٍ وهدوء، وعدم عجلة وسرعة لأجل ختمه مرات عديدة، من غير نظر، ولا فكر، ولا تأمل، وهذا منهي عنه ومكروه لأنه يشبه قراءة الشعر، وهذِّه.
وقد وردت الآثار عن الصحابة الكرام تذم السرعة في قراءة القرآن من غير فهم ولا تفكر.
فعن نهيك بن سنان السلمي أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة! فقال: هذّاً مثل هذِّ الشعر، أو نثراً مثل نثر الدَّقَل! إنما فصّل لتفصلوا، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله ﷺ يقرن عشرين سورة الرحمن والنجم – على تأليف ابن مسعود – كل سورتين في ركعة، وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة. رواه أحمد.
وفي الترمذي: عن الأعمش قال: سمعت أبا وائل قال: سأل رجل عبد الله عن هذا الحرف غير آسن أو ياسن؟ قال: كل القرآن قرأتَ غير هذا الحرف؟ قال: نعم، قال: إن قوماً يقرءونه ينثرونه نثر الدَّقَل لا يجاوز تراقيهم، إني لأعرف السور النظائر التي كان رسول الله ﷺ يقرن بينهن، قال: فأمرنا علقمة فسأله فقال: عشرون سورة من المفصل، كان النبي ﷺ يقرن بين كل سورتين في ركعة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ومعنى (ينثرونه نثر الدقل): أي يرمون بكلماته من غير روية وتأمل كما يرمى الدَّقَل – بفتحتين – وهو رديء التمر، فإنه لرداءته لا يحفظ، ويلقى منثوراً، وقال في النهاية: أي كما يتساقط الرطب اليابس من العذق إذا هز.1
وعن الشعبي قال: قال عبد الله (بن مسعود): “لا تهذوا القرآن كهذِّ الشِّعر، ولا تنثروه نثر الدقَل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب”2.
وقال حذيفة بن اليمان : “إن من أقرأ الناس منافقاً لا يترك واواً ولا ألفاً، يلفته بلسانه كما تلتفت البقرة الخلا بلسانها، لا يتجاوز ترقوته”.3
وعن عبد الله بن عمر قال: “لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد ﷺ فنتعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره، ولا زاجره! ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدقل!.4
ففي هذه الآثار نجد أن الصحابة الكرام يذمون من يهذ القرآن، ويسرع في تلاوته، ولا يتفكر في عجائبه وبلاغته، وحكمه وأحكامه، وأوامره وزواجره.
فلهذا ننصح أئمة المساجد – خاصة في صلاة التراويح – وغيرهم من الناس في غير الصلاة أن يتأنوا في التلاوة، فقراءة حزب من القرآن مع التفكر والتدبر، والخروج بفوائد إيمانية وعملية؛ خير من قراءة القرآن كله عند الله – سبحانه -، وقراءة صفحة أو نصف صفحة في ركعة من ركعات صلاة التراويح مع التدبر، والأخذ بقلوب المأمومين إلى فهم القرآن؛ خير من قراءة جزء كامل في ركعة!
ومع هذا فوقت المؤمن في رمضان طويل، وكثير من الناس يتفرغ للشهر، وتخفف الأعمال والوظائف، فلا ينبغي للمسلم أن يسرع في قراءة القرآن ولديه وقت طويل بإمكانه أن يقرأ فيه بتأن وتدبر وتفكر ولو في اليوم جزء، مع أن بإمكانه قراءة أكثر من ذلك، حتى أنه ليقدر أن يقرأ عشرة أجزاء في اليوم بتفكر وتدبر.
والمقصود أن التفكر في القرآن، والتأني في تلاوته، والنظر في عجائبه، والعمل به هو الهدف الأعظم الذي أنزل الله القرآن لأجله كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (سورة ص:29) أي ليتفكر أصحاب العقول والأفهام.
نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يفرغنا لعبادته، وأن يعيننا على تلاوة كتابه حق التلاوة، وتدبره والتفكر في عجائبه، وأحكامه، وحكمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله الهادي إلى صراط مستقيم،،