توحد المسلمين وهلال رمضان

توحد المسلمين وهلال رمضان

 

الحمد لله العلي العظيم, القائل في كتابه الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}1, والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

لم يحض هلال من الأهلة باهتمام كما يحضى هلال شهر رمضان المبارك؛ لأن عبادة عظيمة هي عبادة الصيام تقوم عليه، وهي تعتبر ركناً من أركان الإسلام, وثبوت دخول رمضان له طريقتان:

       ثبوت رؤية هلال رمضان.

       فإن غُمَّ فإنه يكمل شهر شعبان ثلاثين يوماً.

وقد قال بعض العلماء بأنه يجوز أن يحسب بالحساب الفلكي؛ ولكن في ثبوته بذلك نظر؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم -لم يرشد إلى ذلك، وإنما ورد عنه حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – يقول: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدَّة شعبان ثلاثين))2, والعمدة في عدم اعتماد الحساب الفلكي كما يظهر والله أعلم بعد حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – المتقدم حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنَّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا, وعقد الإبهام في الثالثة, والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا يعني تمام ثلاثين))3 فمرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين.

وقد سُئل العلامة ابن باز – رحمه الله تعالى -: كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع؟ وهل يلزم أهل البلاد البعيدة كأمريكا وأستراليا أن يصوموا على رؤية أهل المملكة لأنهم لا يتراءون الهلال؟ فأجاب:

"الصواب اعتماد الرؤية، وعدم اعتبار اختلاف المطالع في ذلك؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر باعتماد الرؤية ولم يفصل في ذلك، وذلك فيما صح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين))4 متفق على صحته، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة))5, والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ولم يشر – صلى الله عليه وسلم – إلى اختلاف المطالع، وهو يعلم ذلك، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن لكل بلد رؤيته إذا اختلفت المطالع, واحتجوا بما ثبت عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه لم يعمل برؤية أهل الشام، وكان في المدينة – رضي الله عنه -، وكان أهل الشام قد رأوا الهلال ليلة الجمعة، وصاموا بذلك في عهد معاوية – رضي الله عنه -، أما أهل المدينة فلم يروه إلا ليلة السبت، فقال ابن عباس – رضي الله عنهما – لما أخبره كريب برؤية أهل الشام وصيامهم: ((نحن رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نراه، أو نكمل العدة))6، واحتج بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) الحديث، وهذا قول له حظه من القوة، وقد رأى القول به أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية جمعاً بين الأدلة، والله ولي التوفيق"7.

فثبوت الرؤية للهلال قديماً وحتى العصر الحاضر تتم بالعين المجردة في بعض البلاد الإسلامية التي لا توجد بها أدوات أخرى، وكانت في وقتها صحيحة، ولا تحدث فيها اختلافات، فإذا رؤى الهلال في إحدى البلاد الإسلامية التي تتفق مع غيرها في المطلع فإن عليها أن تبلغ بقية الدول تلك برؤيتها الشرعية عن طريق الاتصال المباشر الرسمي؛ فتصوم تلك الدول حتى إن لم تر الهلال في سماءها؛ دون مناقشة أو جدال، لأنها رؤية شرعية صحيحة، والصيام الصحيح يكون بثبوت الرؤية ثبوتاً شرعياً عن طريق العدول والثقات من إدارة الإفتاء في أي دولة, وحتى لا تتفرق الأمة الإسلامية، وتختلف، فيصوم البعض، ويفطر الآخرون؛ فينبغي على المسلمين أن يوحدوا الشهر صياماً في يوم واحد، وإفطاراً في يوم واحد لما في ذلك من إظهار للوحدة الدينية التي نحن أحوج ما نكون إليها, وكذا فيها تقوية رابط الأخوة فيها.

هذا فيما يخص البلدان التي تتفق فيها المطالع، لكن في البلدان التي تختلف فيها المطالع فإن لكل بلد رؤيته الشرعية، لأن وقت الغروب في بلد ما يكون وقت طلوع الفجر أو منتصف النهار في البلد الآخر، فلهذا يحكم بأن لكل دولة تتحد في المطلع حكم البلد الواحد كما هو الحال في بعض البلدان العربية, ويستدل على اعتبار المطالع بحديث كريب أن أم الفضل بنت الحارث – رضي الله عنها – بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر؛ فسألني عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -، ثم ذكر الهلال, فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية, فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا تزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟, فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -"8.

نسأل الله – تبارك وتعالى – بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى؛ أن يحفظ علينا ديننا ووحدتنا, وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الزلل بمنِّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


1 سورة البقرة (189).

2 رواه البخاري برقم (1810)؛ ومسلم برقم (1081).

3 رواه البخاري برقم (1814)؛ ومسلم برقم (1080) واللفظ له.

4 رواه البخاري برقم (1810)؛ ومسلم برقم (1081)؛ والنسائي برقم (2124)، واللفظ له.

5 رواه أبو داود برقم (2326)؛ والنسائي برقم (2126)؛ وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7394)؛ وفي صحيح أبي داود برقم (2040).

6 رواه مسلم في حديث طويل برقم (1087).

7  نقلاً عن موقع: http://www.binbaz.org.sa/mat/406 .

8 رواه مسلم برقم (1087).