الصيام حياة روح

الصيام حياة روح

 

الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله، وخيب ظنه؛ إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجنة، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، والصلاة على محمد قائد الخلق وممهد السنة، وعلى آله وأصحابه ذوي الأبصار الثاقبة والقلوب المطمئنة، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إن شهر رمضان يقدم على المسلمين يوم يقدم ليظلهم بظلاله الوافرة، ويخيم عليهم بريحه العاطرة، إنه يحمل في طياته درة مهيبة، ولؤلؤة ذهيبة، تلك هي: "الصيام"، إذ الصيام روحانية قلب، وصفاء نفس، وتربية روح، ولقد بين المصطفى – صلى الله عليه وسلم – هذا المعنى وجلاه يوم قال: ((الصيام جنة))1، وما وصيته – صلى الله عليه وسلم – لأبي أمامة حين أوصاه بقوله: ((عليك بالصوم فإنه لا مثيل له))2 إلا دلالة شاهدة ومؤكدة على معاني ربانية في الصيام غابت عن كثير وكثير.

لقد أفسد بعض التعساء على أنفسهم لذة الصيام وحلاوته، ورونقه وبهاءه يوم جعلوا الصيام جوع نهار، وشبع ليل، وحرموا أنفسهم من روحانية لا يعرف كنهها، ولا يستطيع وصفها حتى من ذاق طعمها، وعرف حلاوتها من أولئك الأفذاذ الذين

تسعى بهم أعمالهم شوقــاً إلى             الجنات شوق الخيل بالركبان

صبروا قليلاً فاستـراحوا دائماً               يا عزة الـتوفيق للإنسـان

رفعت لهم في السير أعلام السعا              دة والهدى يـا ذلة الحيران

أيها الموفق:

مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، وأطيب ما فيها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة، ففي الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق، ولا يعرفها إلا الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، وهذه الروحانية العجيبة التي نحياها في رمضان، روحانية صائم بذرها بالجوع، وسقاها بالدموع، وقواها بالركوع، وحسنها الخشوع والخضوع.

إنه الصوم الذي أوصى به           رحمة بالناس رب الحكماء

فيه للإحساس إرهاف فلا           يأخذ الدنيا بعين الأغبياء

فيه ترويض لطبع جامح             فيه روض فيه للمرض شفاء

ولذا فإني أنثر أمام عينيك درراً من أسراره وحكمه الروحية، وفوائده الإيمانية؛ لتعيش مع الصيام في فلكه الرباني، وملكوته الروحانية، حياة تنعش القلب، وتذيب كوامنه الفاسدة، لتربي في نفسك مع مدرسة الصيام معاني ضبط النفس والرقابة الإلهية، والشعور الواحد، فحلق مع مدرسة الصيام في فضاء التقوى الخصب، بروح متطلعة متلهفة لبلاد الروح والأفراح.

من فوائد الصيام الروحية:

يشير ابن القيم في معرض كلامه على هديه – صلى الله عليه وسلم – في الصيام إلى ذلك فيقول:

"لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار المقربين، وهو لرب العالمين من بين الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته، فهو ترك المحبوبات لمحبة الله، وهو سر بين العبد وربه، إذ العباد قد يطلعون على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك ذلك لأجل معبوده فأمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم.

وله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال – تعالى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}3"4

إن الصيام يا كرام: عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه بترك محبوباته من طعام وشراب ونكاح؛ لينال بذلك رضى ربه وخالقه، والفوز بدار كرامته، وهو بهذا العمل يقدّم محبوبات ربه على محبوبات نفسه، والصيام سبب للتقوى كما قال – تعالى – في غاية صيام شهر رمضان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}5 "فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى لأن فيه امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، ومما اشتمل عليه من التقوى أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه متقرباً بذلك إلى الله، راجياً بتركها ثوابه، فهذا من التقوى"6، ولذا قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما صح عنه: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))7، وقول الزور: كل قول محرم، والعمل بالزور: العمل بكل فعل محرم، والجهل: السفه، وهو مجانبة الرشد في القول والعمل، فإذا حرص الصائم على صيامه، وابتعد عن هذه الأمور؛ حصلت له التقوى، وكان الصيام تربية لنفسه، وتهذيبًا لأخلاقه وسلوكه، وكان سبباً في زكاة نفسه وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة.

ومن فوائده وحكمه أيضاً: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه، حيث يسّر الله له كل ما يشتهيه من الطعام والشراب وغيره، فإذا امتنع عن ذلك في وقت مخصوص، وحصل له جوع أو عطش ؛تذكر بذلك من منع من ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر هذه النعمة، ويحمله ذلك على مواساة أخيه المحتاج والإحسان إليه.

ومن فوائده الروحية: أنه يعوّد على الصبر، ويمرّن نفسه على ضبطها، والسيطرة عليها، حتى يتمكن من قيادتها لما فيه خيرها وسعادتها في الدارين، ولا أدل على ذلك من ترك الصائم ما تشتهيه نفسه، وتطويعها لما أمر به، وقد جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((الصوم نصف الصبر))8.

والصيام: ينمي الإخلاص للخالق – سبحانه وتعالى -، فهو سرٌ بين العبد وربه، لا رقيب على تنفيذه إلا ضميره، ورغبته الصادقة في رضاء الله – سبحانه -، فالعبد يمسك عن سائر المفطرات رغبة من نفسه، وطمعاً في مرضاة ربه.

ومن فوائد الصوم وحكمه: أن الصيام الخالص والحقيقي يورث في القلب حب الطاعة، وبغض المعصية.

ومن فوائده أيضاً: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل معاصي العبد،9 وتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر قوة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الصوم وِجَاء لقطعه شهوة النكاح.

والصيام: يؤدي إلى صفاء الذهن، وتقوية الإرادة، وكسر النفس والحد من كبريائها حتى تخضع للحق، وتلين للخلق، فإن الشبع والري ومباشرة النساء يحمل كل منها على الأشر والبطر، والعلو والتكبر على الخلق وعن الحق، وذلك أن النفس عند احتياجها لهذه الأمور تشتغل بتحصيلها، فإذا تمكنت منها رأت أنها ظفرت بمطلوبها، فيحصل لها من الفرح المذموم، والبطر؛ ما يكون سبباً لهلاكها، والمعصوم من عصمه الله – تعالى –10.

وهو يدفع الخمول والكسل، فإن من شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه، ولأجل ذلك قال بعض السلف: "لا تأكلوا كثيراً، فتشربوا كثيراًَ، فترقدوا كثيراً، فتخسروا كثيراً"11، وفي كثرة النوم: ضياع العمر، وفوت التهجد، وبلادة الطبع، وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر، وهو رأس مال العبد.

وفي الصيام: تيسير المواظبة على العبادة، فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات؛ لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام ومئونته وغير ذلك، وهو يعين على صفاء القلب، وإيقاد القريحة، وإنفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة، ويعمي القلب، ويكثر البخار في الدماغ، فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار، وعن سرعة الإدراك.

ومن أعظم آثاره: أنه يرقق القلب ويلينه، ويدفعه للوجل والخشية، ويربيه على مراقبة الله، ويعوده على الخوف والحياء منه، يقول القسطلاني – رحمه الله – معدداً ثمرات الصوم: "ومنها رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، فإن الشبع مما يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان" انتهى كلامه – رحمه الله -.

ولعل سائلاً يسـأل: ما علاقة الشرب والأكل بالتقوى؟ فالأكل والشرب للبطن، والتقوى مكانها القلب؛ فما دخل ذا بذا؟

اسمع رعاك الله الإجابة؛ أليس كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته؟ فالبطنة تذهب الفطنة كما يقال، والشبع يقسي القلب ويعميه، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن))12، يقول صاحب الأحياء: "وإنما المقصود بالصيام كسر شهوتك، وتضعيف قوتك لتقوى بها على التقوى، فإذا أكلت عشية ما تداركت به ما فاتك ضحوة فلا فائدة في صومك، وقد ثقلت عليك معدتك، وما وعاء يملأ أبغض إلى الله – تعالى – من حلال، فكيف إذا ملىء من حرام؟"13.

قال عمرو بن قيس: "إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب"، وقال الحارث بن كلدة وهو الطبيب العربي المشهور: "الحمية رأس الدواء، والبطنة رأس الداء"، وقال سفيان الثوري: "إن أردت أن يصح جسمك، ويقل نومك؛ فأقلل من الأكل"14، ولذلك فإن تقليل الطعام والشراب، ومباشرة النساء؛ ينور القلب، ويوجب رقته، ويزيل قسوته، فالصيام فيه كسب للنفس، وتحلية القلب للذكر والفكر.

وتأكد:

أن الإمساك عن الطعام والشراب في رمضان وغير رمضان ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله، ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه))15 كما في البخاري، وقال أيضاً – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث))16.

ولله در من قال:

إذا لم يكن في السمع منى تصامــم                  وفى العـين غض وفي منطقي صمتُ

فحظي إذا من صومي الجوع والظمأ                   فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ

فأف ثم أف لنفوس لم يهذبها الجوع، ولم يربيها الخضوع والخنوع، ولم تجن من مدرسة الثلاثين يوماً إلا الجوع والعطش، والظمأ والتعب.

وأف والله لعبد انسلخ من شهر الصيام وما تمكنت هذه المعاني من قلبه، ولم يدخر لها وسعاً وفراغاً من وقته.

وأف والله لمن لم يكن نصيبه من الصيام سوى أن جاع نهاره، وشبع في ليله.

نسأل أن لا يحرمنا خير ما عنده بسوء ما عندنا، إنه جواد كريم مجيب الدعوات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 1 رواه البخاري برقم (1761)، ومسلم برقم (1943).

2 رواه النسائي برقم (2190)، وذكره الألباني في السلسة الصحيحة (4/436).

3 سورة البقرة (183).

4 مختصر زاد المعاد (1/78).

5 سورة البقرة (183).

6 تفسير السعدي (86)

7 رواه البخاري برقم (1770).

8 رواه ابن ماجه برقم (1735) وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1/145).

9 تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، في صدد تفسيره لآيات الصيام (183-185) سورة البقرة.

10 مجالس رمضان لابن عثيمين (المجلس التاسع – حكم الصيام).

11 إحياء علوم الدين (3/86).

12 رواه أحمد في مسنده برقم (16656)، رجاله ثقات غير أن يحيى بن جابر الطائي تكلموا في سماعه من المقدام … فإن صح سماعه منه فالحديث صحيح وإلا فمنقطع، تعليق شعيب الأرنؤوط مسند الإمام أحمد (4/132).

13 بداية الهداية للغزالي فصل (آداب الصيام).

14 جامع العلوم والحكم (1/426).

15 سبق تخريجه برقم (1770).

16 رواه في المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم (1520)، ورواه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح (1/261).