صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70-71) سورة الأحزاب. أما بعد:
أيها الناس: بينما يستعد العالم الإسلامي لاستطلاع رؤية هلال رمضان، وقد اعتاد الناس الجدل الواسع حول رؤية أهلّة الشهور القمرية، واختلافها أو اتفاقها مع الحسابات الفلكية، ورغم وجود خلل تاريخي في تلك الحسابات -تم تلافيه أخيراً- فإن اختلاف الرؤية من مكان إلى مكان على الكرة الأرضية ما زال وارداً، بل ويؤكد عليه علماء الفلك.
والتقويم الإسلامي أو الهجري هو طريقة لتأريخ الزمن، بدأ بهجرة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ويعتمد على الشهور القمرية؛ حيث يبدأ الشهر القمري في التقويم الإسلامي برؤية الهلال استنادًا إلى قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)1.
وقد قام علماء الفلك والرياضة في عصر الحضارة الإسلامية -من القرن الثالث الهجري إلى القرن السابع الهجري- بوضع القواعد والمعايير الدقيقة للتنبؤ بالأهلّة التي اعتمدت على تطوير المعايير البابلية القديمة، وقد انتشرت تلك المعايير لعدة قرون في معظم أنحاء العالم الإسلامي، لكن مع اضمحلال تلك الحضارة والضياع التدريجي لتلك المعرفة العلمية، بدأت العديد من الدول الإسلامية في الرجوع إلى تقويماتها التقليدية كالتقويم الميلادي أو الصيني أو الهندي حيث أدى هذا إلى حدوث خلل في أسلوب التنبؤ بالتقويم الهجري.2
أيها المؤمنون: قد يسأل سائل عن حكم الاعتماد على الإذاعة في الصوم والإفطار، وهل هذا يوافق الحديث السابق (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته). وهل إذا ثبتت الرؤية بشهادة عدل في دولة مسلمة يجب على الدولة المجاورة لها الأخذ بذلك، وما دليله وهل يعتبر اختلاف المطالع؟
سُئل الشيخ ابن باز عن ذلك فأجاب: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة أنه قال: (صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)3، وفي لفظ آخر : (فأكملوا العدة ثلاثين يوماً)4 وفي رواية أخرى : (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً)5.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة)6، فهذه الأحاديث وغيرها في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن المعتبر في ذلك هو الرؤية أو إكمال العدة، أما الحساب فلا يعول عليه، وهذا هو الحق، وهو إجماع من أهل العلم المعتد بهم.
أيها الناس: وليس المراد من الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه، وإنما المراد ثبوت ذلك بشهادة البينة العادلة، وقد خرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام، وأمر الناس بالصيام"7.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابياً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟) فقال: نعم، قال: (فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً)8.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوماً، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا).9
وعن أمير مكة الحارث بن حاطب قال: "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما"10
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على أنه يكتفى برؤية هلال رمضان بالشاهد الواحد العدل، أما في الخروج من الصيام، وفي بقية الشهور فلابد من شاهدين عدلين ، جمعاً بين الأحاديث الواردة في ذلك ، وبهذا قال أكثر أهل العلم ، ورجح الشيخ ابن باز هذا لظهور أدلته.
ومن هذا يتضح -أيها المؤمنون- أن المراد بالرؤية هو ثبوتها بطريقها الشرعي، وليس المراد أن يرى الهلال كل أحد، فإذا أذاعت الدولة المسلمة المحكمة لشريعة الله أنه ثبت لديها رؤية هلال رمضان أو هلال شوال أو هلال ذي الحجة فإن على جميع رعيتها أن يتبعوها في ذلك.11
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه جواد كريم، برٌ رؤوف رحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قربه، ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين وإماما للمتقين وحجة على الخلائق أجمعين. أما بعد:
أيها الناس: هناك من الناس من يصوم رمضان ثلاثين يوماً باستمرار، وقد دلت الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان من العلماء على أن الشهر يكون ثلاثين، ويكون تسعاً وعشرين، فمن صامه دائماً ثلاثين من غير نظر في الأهلة فقد خالف السنة وإجماع سلف الأمة، وابتدع في الدين بدعة لم يأذن بها الله ، قال سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ.. } الآية (3) سورة الأعراف، وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ..} الآية (13) سورة آل عمران، وقال تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر، وقال عز وجل : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (13-14) سورة النساء، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والأحاديث السابقة في إثبات رمضان بالرؤية أو أن يقدروا له ثلاثين.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)12.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا). يعني ثلاثين ثم قال: (وهكذا وهكذا وهكذا). يعني تسعاً وعشرين، يقول مرة ثلاثين، ومرة تسعا وعشرين.13 يشير صلى الله عليه وسلم إلى أنه يكون في بعض الأحيان ثلاثين ، ويكون في بعضها تسعاً وعشرين ، وقد تلقى أهل العلم والإيمان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان هذه الأحاديث الصحيحة بالقبول والتسليم وعملوا بمقتضاها فكانوا يتراءون هلال شعبان، ورمضان وشوال، ويعملون بما تشهد به البينة من تمام الشهر أو نقصانه، فالواجب على جميع المسلمين أن يسيروا على النهج القويم وأن يتركوا ما خالف ذلك من آراء الناس وما أحدثوه من البدع ، وبذلك ينتظمون في سلك من وعدهم الله بالجنة والرضوان في قوله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.14
أسأل الله العظيم بوجهه الكريم وسلطانه القديم أن يجعلنا ممن اصطفاهم وأختارهم ووفقهم واجتباهم لجنته، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم بارك لنا في رمضان، واجعل صيامنا وقيامنا فيه إيماناً واحتسابا، ووفقنا لقيام ليلة القدر إيماناً واحتسابا.
صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، من أمركم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب، اللهم صلى وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين.
1 رواه البخاري (1776) ومسلم (1809).
2 من مقال بعنوان " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"، المصدر: http://www.islamway.com بتصرف.
3 رواه مسلم (1080).
4 رواه مسلم برقم (1081).
5 رواه البخاري رقم (1909).
6 رواه أبو داود برقم (2326)، والنسائي برقم (2097) واللفظ لأبي داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم(2040).
7 رواه أبو داود رقم (2342) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2052)..
8 رواه أبو داود برقم (2340) والترمذي (691) رواه ابن حبان في صحيحه، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود(507).
9 رواه أحمد (18915)، ورواه النسائي (2116)ولم يقل فيه: (مسلمان) وصححه الألباني في إرواء الغليل (909).
10 رواه أبو داود (2338) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2050).
11 من فتاوى ابن باز المصدر: WWW.BINBAZ.ORG.SA بتصرف.
12 رواه البخاري (1808).
13 رواه البخاري (4996) ومسلم (1080) واللفظ للبخاري.
14 من فتاوى ابن باز المصدر: WWW.BINBAZ.ORG.SA بتصرف.