وقفات مع كلمات الأذان

وقفات مع كلمات الأذان

 

الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، وجامع الناس ليوم الدين، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، الحمد لله الذي عز فارتفع وعلى فمتنع وذلك كل شيء لعظمته وخضع، الحمد لله الكبير المتعال المتفرد بالعبادة وحده لا شريك له ولا رب سوه، وأشهد أن محمداً عبد الله وسوله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

إننا في هذه الورقات سنتكلم عن شعيرة من شعائر الإسلام لنا معها وقفات،كلمات تتردد في كل يوم خمس مرات، إنها كلمات الأذان تُرفع خفاقة في أرجاء المعمورة من آلاف المساجد المنتشرة في أرض الله – تبارك وتعالى -، إن هذه الشعيرة دليل على وجود الإسلام حيثما رفعت وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أراد أن يغزوا بلدة إذا سمع الأذان كف عنهم وإذا لم يسمعه أغار كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((على الفطرة))، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((خرجت من النار فنظروا فإذا هو راعي معزي))1، فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أهمية الأذان، وأنه شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، فالأذان إذاً ليس مجرد وسيلة لإبلاغ الناس بوقت الصلاة؛ وإنما يشتمل على معان متعددة، لذلك قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: " قال القرطبي وغيره: " الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله وكماله ثم ثنى بالتوحيد ونفى الشريك ثم بإثبات الرسالة لمحمد – صلى الله عليه و سلم – ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم وفيه الإشارة إلى المعاد ثم أعاد ما أعاد توكيدا ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الجماعة وإظهار شعائر الإسلام والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان"2، وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: " وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثيره به وإن لم يشعر مع ما في ذلك من فائدة أخرى وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التي قدرها الله و شاءها فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به، وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان كما كانت فطرة الله التي فطر عليها سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم"3.

إن كلمات الأذان تمثل العناوين البارزة لرسالة كبيرة فى الإصلاح، ولذلك جاء فى السنن الثابتة أن المسلم عندما يسمعها في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من ققال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة))4، ويُؤذن في أذن الصبي اليمنى يوم ولادته، ويقام، لكن الأحاديث الواردة في ذلك لا تخلوا من كلام فيها خاصة روايات الإقامة، وعلى الإنسان أن يتأمل أنه لا بد بعد كل أذان إقامة وصلاة، لكن هنا أُذن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى وأين الصلاة؟ هذا هو الأذان وهذه هي إقامة الصلاة تمت في أذن الطفل فأين الصلاة ؟ إن الصلاة هي التي تصلى على الإنسان عند وفاته، ألم تلحظوا أن صلاة الجنازة بدون أذان ولا إقامة،

إنما كان الأذان والإقامة يوم مولده، والصلاة يوم وفاته، وهذه عظة وعبرة للإنسان في هذه الحياة فما هي إلا ساعة عبدالله، فاجعلها طاعة لخالقك العظيم سبحانه، ولا تنسى ذكره وشكره، وتلذذ بعبادته وتقرب إليه يملأ قلبك إيماناً، نوراً ورضاً.

 وسنقف مع هذه الكلمات أعني كلمات الأذان وهي: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، وقفات نتأمل فيها هذه الكلمات:

الوقفة الأولى: افتتح الأذان بتكبير الله – تبارك وتعالى -، وذلك للفت ذهن السامع له، أن الله – تبارك وتعالى – أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأنه القادر على كل شيء، فلا يشغلك شاغل عن إجابته، إذ أنت مسكين ضعيف، لا غناء لك عن الله – تبارك وتعالى -، ولا قوة لك إلا بالله، فلا حول لك ولا قوة إلا بالله العلي الكبير العظيم، فإذا استشعر الإنسان معنى هذه الكلمة ذل وخشع وانكسر بين يدي الله تبارك وتعالى.

الوقفة الثانية: مع قوله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، هذه كلمة التوحيد الذي هو حق الله – تبارك وتعالى – على العباد، فبعد أن ذكر السامع بأن الله – تبارك وتعالى – أكبر من كل شيء، ذكره بأن الله – تبارك وتعالى – وحد في ملكه وسلطانه، هو الخالق والرازق والمدبر، المتصرف في الكون وحده، لذا فكان لزاماً على كل أحد من خلقه إفراده في عبوديته فلا يعبد إلا الله – تبارك وتعالى – وحده لا شريك له، وهذه الكلمة من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة كما هو ثابت في السنة الصحيحة فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل: قال: ((يا معاذ، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثما))5، وعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: " أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعليه ثوب أبيض فإذا هو نائم ثم أتيته أحدثه فإذا هو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال: ((ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)) قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: ((وإن زنى وإن سرق)) قلت: وإن زنى وإن سرق، قال: ((وإن زنى وإن سرق ثلاثا ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر))، فخرج أبو ذر يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر، فكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: "وإن رغم أنف أبي ذر6"، وعن عبادة – رضي الله عنه -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل))7.

الوقفة الثالثة: مع قوله أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم بعد كلمة التوحيد أتى بعدها بشهادة أن محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأنه لا يؤمن من شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، فهو المبلغ عن الله – تبارك وتعالى -، الذي يجب على كل أحد من الناس أن يتبعه في أقواله وأفعاله، فعلى الإنسان أن يطيعه فيما أمر وأن يجتنب ما نهى عنه وزجر.

الوقفة الرابعة: مع قوله حي على الصلاة، حي على الصلاة، ومعنى حي على الصلاة أي: هلموا إلى الصلاة8، أخي الكريم: الصلاة هي وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الأخيرة عن علي – رضي الله عنه – قال: "كان آخر كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم))"9، فعلى الإنسان أن يحافظ عليها، أُسري بالنبي – صلى الله عليه وسلم – من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء لتفرض عليه هذه الصلاة من فوق سبع سماوات، أمانة عظيمة ويلٌ ثم ويلٌ لمن ضيعها أو فرط فيها، من تركها فقد كفر بنص حديث سيد البشر – صلى الله عليه وسلم – عن عبد الله بن بريدة عن أبيه – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))10، فعلى الإنسان أن يحافظ عليها، وذلك لأنها هي الفارق بين الإيمان والكفر، وعليه أن يستشعر معانيها، فلا يؤديها مجرد حركات، بل عليه أن يستشعر أنه يقف بين يدي الله – تبارك وتعالى – الواحد القهار، فهو متنقل ما بين تسبيحٍ وتمجيد لله تبارك وتعالى، وتعظيمٍ له، وقارئاً لكلامه، فهو مستأنس في صلاته بربه – تبارك وتعالى -، فهذه هي الحياة الحقيقية حياة الأنس بالله تبارك وتعالى.    

الوقفة الخامسة: مع قوله حي على الفلاح حي على الفلاح، أي أن الفلاح والفوز هو في الصلاة، وإقامتها، فهلموا أيها الناس إلى هذا الفلاح كل الفلاح في الاستقامة على شرع الله الحنيف، والالتزام به، وإن مما أمر به سبحانه إقامة الصلاة حيث قال في كتابه الكريم: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ}11، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }12، وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}13، فالاستجابة لأمر الله – تبارك وتعالى – فيه حياة للقلوب قال الله – تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}14

الوقفة السادسة: مع قوله الله أكبر الله أكبر، في نهاية المطاف يعود ويذكر الإنسان بأن الله – تبارك وتعالى – هو الكبير وحده سبحانه، من أجل أن يقبل على صلاته وهو معظم لله تبارك وتعالى.

الوقفة السابعة: مع قوله لا إله إلا الله، ثم ختم الأذان بكلمة التوحيد، وفيها إشارة إلى عظم التوحيد وأن من قالها عند موته وكانت آخر كلامه، فهو من أهل الجنة بإذنه – تبارك وتعالى -، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يختم لنا في الحياة بلا إله إلا الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن من أسوء ما يبتلى به المسلمون، أن تجرد شعائر دينهم من معانيها، وتفرغ رموز دينهم من دلالتها، فتتحول إلى حركات وتنقلات وأسماء، والواجب أن نقول ذلك بقوة لتبقى لهذه الحركات دلالتها، تستعيد ما كان لها من معنى يوم شرعت أول مرة، وهذا يفرض علينا إحياء طريقة السلف في تلقين أحكام الدين حتى لا تقصر على جانب واحد، فإذا تناولنا أحكام الأذان على سبيل المثال لا نقتصر على بيان ألفاظه والأدعية التي تكون بعده وما يشترط في المؤذن، بل نجمع إلى ذلك استشعار كل كلمة منه، والتفكر فيها وفي مدلولاتها حتى نستفيد من ذلك، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمن علينا بالاستقامة على الكتاب والسنة ونسأله أن يعيننا على طاعته ورضاه، وأن يختم لنا بالا إله إلا الله محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


1 رواه مسلم برقم(382). 

2 فتح الباري (2/77).

3 تحفة المودود (31).

4 رواه البخاري برقم(589)وبرقم(4442).

5 رواه مسلم برقم(32).

6 رواه أحمد في المسند برقم(21504) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

7 رواه البخاري برقم(3252).

8 عون المعبود (3/274)؛ فتح الباري لابن حجر(2/ 442).

9 رواه أبو داود برقم(5156)؛ وأحمد في المسند برقم(585) وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح وهذا إسناد حسن؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(868)؛ وفي الجامع الصحيح برقم(4616).

10 رواه الترمذي برقم(2621),قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب؛  والنسائي برقم(463)؛ وأحمد في المسند برقم(22987)وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(564).

11 سورة البقرة(238).

12 سورة هود(114).  

13 سورة العنكبوت(45).  

14 سورة الأنفال(24).