فكلا أخذنا بذنبه

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ

 

الحمد غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المرجع والمآب، والصلاة والسلام على رسول لله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فهذه كلمة مختصرة أحببت أن أوجهها لنفسي أولاً، ولسائر المسلمين ثانياً، عنوان هذه الكلمة مقتبساً من جزء من آية قرآنية، عنوان عبارة عن قاعدة ربانية، هذه القاعدة تبين أنَّ الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون؛ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} سورة فصلت (46)؛ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} سورة الكهف(49)؛ {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} سورة ق(29)؛ {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} سورة النساء(40). ولكن إذا ظلم الناس أنفسهم؛ فخالفوا أوامر الله، وارتكبوا محارمه، وعصوا رُسله؛ أنزل الله العقوبة المناسبة بكل من ارتكب تلك المخالفَة، أو المعصية؛ قال رب العزة والجلال: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}…{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة العنكبوت(40). بذنوبنا ومعاصينا ظلمنا أنفسنا، وكما قيل في المثل: جنت على نفسها براقش؛ قال الله -تعالى- مخبراً عن حال أولئك الذين خالفوا أمره، وكذبوا سله؛ واستهانوا بمحارمه؛ {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}؛ أي كانت عقوبة كل قوم بما يتوافق مع نوع المعصية التي ارتكبوها؛ فقوم عاد- عليه السلام- لما تكبروا وتجبروا، وزعموا أنه لا قوة فوق قوتهم؛ فقالوا كما أخبر الله عنهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} سورة فصلت(15)؟ كانت العقوبة المناسبة ذلك أن الله أرسل عليهم ريحاً صرصراً، شديدة البرودة، عاتية الهبوب، تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم، وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء، ثم تنكسه على أمِّ رأسه فتشدخه فيبقى بدناً بلا رأس؛ كما قال الله-تعالى-: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} سورة القمر(20)، وذلك قول الله: {فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا}.

وقوم  ثمود لمَّا قامت عليهم الحجة، وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة، مثل ما سألوه سواء بسواء، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم، وتهددوا نبي الله صالحاً ومن آمن معه، وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم، جاءهم ما كانوا يوعدون؛ قال الله –تعالى-: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} سورة القمر(31). هذه الصيحة التي أرسلها الله عليهم أخمدت الأصوات منهم والحركات؛ قال الله -جل في علاه-: {وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ}.

وقارون صاحب الملك العظيم، والكنوز الثمينة، لمَّا طغى وبغى، ومشى في الأرض مرحاً، واعتقد أنَّه أفضل من غيره، واختال في مشيته، وعصى الجبار الأعلى، الذي بيده خزائن كل شيء-سبحانه وتعالى-؛ خسف الله به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة؛ قال الكبير المتعال، ذو العزة والسلطان؛ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} سورة القصص(81)، قال الله: {وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ}.

وفرعون ووزيره هامان وجنودهما  لما كفروا برب الأرض والسماء، وادعى عدو الله فرعون أنه الرب الأعلى، وافتخر بأن الأنهار تجري من تحته، أخذه الله نكال الآخرة والأولى، -هل في ذلك عبرة لمن يخشى؟!- بلى. فأغرقهم الله في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر؛ {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} سورة الإسراء(103). قال الجبار الأعلى سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا}. ثم قال أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي فيما فعل بهم؛ {وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقاً بما كسبت أيديهم1. إي والله؛ {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}؛ أي بسبب ذنوبه ومعاصيه.

ولتتأمل -حفظك الله ورعاك- فيما قاله العلامة ابن القيم -رحمه الله- وهو يتحدث عن خطر الذنوب والمعاصي: فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟!. وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقُرب بُعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، وبموالات الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الأيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان؛ فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلَّ عليه غضب الرب -تعالى- فأهواه ومقته أكبر المقت فأرداه فصار قوَّاداً لكل فاسق ومجرم، رضيَّ لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة؟! -فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك-.

وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رأس الجبال؟!. وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى القتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرَّ عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟!. وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخر هم؟!. وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكم جميعاً ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء أمطرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه علي أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد؟!.

وما الذي أرسل علي قوم شعيب سحاب العذاب كالظُلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟!. وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟!. وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟!. وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميراً؟!.

وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن أخرهم؟!. وما الذي بعث على بنى إسرائيل قوماً أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال، وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الديار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فاهلكوا ما قدروا عليه، وتبروا ما علو تتبيراً؟!. وما الذي سلط عليهم بأنواع العذاب والعقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب -تبارك وتعالى-: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} سورة الأعراف(167)؟!2. لاشك ولا ريب أنها الذنوب والمعاصي، وصدق الله القائل-جل في علاه-: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} سورة العنكبوت(40). وما الذي كان سبباً في تبديل قوم سبأ بما كانوا عليه من البركة والخير الكثير بنزع البركة، ومحقها؟!3. إنها الذنوب والمعاصي؛ قال الله-تعالى-: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} سورة سبأ(17)، وصدق الله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} سورة العنكبوت(40). وما الذي.. قاموس.. وما الذي..؟!. والجواب لكل تلك الأسئلة؛ إنها الذنوب والمعاصي.

وفي السنَّة أمثلة كثيرة فيما حصل أو سيحصل من عقوبات لمن ارتكب الذنوب والمعاصي؛ فعن عبد الله بن عمر بن الخطاب-رضي الله عنهم- قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله، فأقبل علينا رسول الله بوجهه. فقال: (يا معشر المهاجرين خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، فلولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم من غير فاخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)4. وهذا رجلٌ شُلت يده بسبب معصية واحدة ارتكبها، وهي تكبره وإعراضه عن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعنْ سلمةَ بنِ الأَكْوع -رضي اللَّه عنه- أَن رجُلاً أَكَل عِنْدَ رسولِ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- بشِمالِهِ فقال: (كُلْ بِيَمِينِكَ). قالَ: لاَ أَسْتَطِيعُ، قال: (لا اسْتَطَعْتَ) مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الكبْرُ. قال: فما رَفَعها إِلى فِيهِ5. وغير ذلك من الأمثلة. وما الذي سلط علينا أرذل خلقه(اليهود والنصارى، وغيرهم) فاحتلوا أراضينا، ودنسوا مقدساتنا، وسلبوا خيراتنا، وأهانوا كرامتنا؛ إنها الذنوب والمعاصي؛{فكلاً أخذنا بذنبه}. ولكن ما هو الحل للخروج من هذه العقوبات؟ وما هي سُبُل النجاة من هذه العقوبات؟! وكيف تنجوا الأمة من هذه الحالة؟. إنَّ الأمة لن تفوز وتفلح في الدنيا والآخرة إلا بأن تتوب إلى الله، وتبتعد عن الذنوب والمعاصي العامة والخاصة، وأن تتوب توبة نصوحاً؛ وأن تعود إلى الله عوداً حميداً، فإن فعلت ذلك غيَّر الله حالها، فبدلها بعد الضعف قوة، وبعد الفقر غنى، وبعد تسلط الأعداء عليها يرفع شكوتها، ويمكن لها أن تسود وأن تحكم في الأرض، فإنَّه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، قال الله-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سورة التحريم (8). ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا لا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعله السفهاء منَّا. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله أنت نستغفرك ونتوب إليك.


1 – راجع: تفسير ابن كثير(3/547).

2 – الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء)صـ(26) وما بعدها. لابن القيم الجوزية. الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت.

3 – راجع:تفسير ابن كثير(3/700).

4 – رواه ابن ماجه، وقال الشيخ الألباني: حسن. كما في صحيح ابن ماحه، رقم(3246 ).

5 – رواه مسلم.