مكانة المسجد

مكانة المسجد

المساجد على مر العصور هي منارات العلم والعلماء؛ في ساحاتها انعقدت حلقات الدروس، وأقيمت المناظرات، وتنوعت المذاهب والآراء، فكان لذلك أثره البعيد في تقدم العلوم والآداب والفنون، وعلى منابرها وقف الخلفاء واللُّسن من الخطباء، وأثر عنهم القول البليغ، والنصح الرشيد مما تناقلته الرواة، وأودع بطون الكتب، وكانت المساجد أيضاً لما ألحق بها من مدارس ومعاهد، وما أنشئ فيها من السبل وخزائن الكتب، ثم هي قبل ذلك أشرف البقاع عند المسلمين، وأقربها إلى نفوسهم، وأروحها على قلوبهم؛ يسرعون إليها خمس مرات في اليوم يؤدون الشعائر، والخصائص الجليلة.

ولقد ظل النبي  يدعو إلى الله في مكة المكرمة، وعندما لم تستقر أوضاع المسلمين بسبب عدم وجود مكان يلتقون فيه بحرية، ويؤدون فيه العبادة، ويتذاكرون فيه، ويتشاورون؛ هاجر النبي  إلى المدينة المنورة، وكان أول شيء قام بفعله أن أنشأ المسجد النبوي، وذلك؛ لأنه  يعلم ما للمسجد من أهمية في حياة الفرد والمجتمع.

إن المساجد هي بيوت الله – تبارك وتعالى – التي تشرفت بأن أضافها إلى نفسه قال تعالى: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه (البقرة:114)، وقال تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله (التوبة:18)، وهذه الإضافة تكسبها شرفاً وفضلاً مع أن الأرض كلها لله، إن المساجد بيوت الله – تعالى – في أرضه، وشعيرة عظيمة من شعائره ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (الحج:32)، وهي مكان لإعلان العبودية له سبحانه، ومقر لعباده المتقين، فيها يتربى المؤمنون، ويتآخى المتآخون، ومن محاريبها يتزودون الإيمان، ومن فوق منابرها يذكَّرون وينصحون ويدعون إلى الخير، وفي ساحتها يتلقون العلم، ومعرفة الحلال والحرام، تلتقي أجسامهم متراصة كالبنان أو البنيان فتتفاعل القلوب، وترتبط ببعضها، وتزداد مودة ووثاقاً، فتزكوا نفوسهم، وتطيب قلوبهم، وتملتئ رحمة وحناناً على بعضهم، وعطفاً على فقيرهم ومعوزهم، وشفقة على صغيرهم ومريضهم، وتتفاعل أشخاصهم فتنطلق متعاونة فيما بينها على البر والتقوى في كل أمر شأنه الصلاح، ويحقق للمجتمع الفلاح، وللأمة النفع والخير والنجاح، ويوم أن كان المسلمون يعرفون للمسجد قدره ومكانته، ويعترفون له بهذا الحق؛ كانوا بحق خير أمة أخرجت للناس، فكانوا ساسة، وقادة، وأساتذة، وروَّاد حضارة، ومنارات هدى لجميع العالمين، وقبل هذا أو ذاك كانوا:

عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه على الخد أجراه

وعندما تقهقر المسلمون إلى الوراء، وجهلوا أو تجاهلوا هذا المقام للمسجد؛ أصبح حالهم كما هو مشاهد لا يحتاج إلى تعريف.

 

لقد فقدت المساجد العاكفين والركع السجود الذين يعمرونها آناء الليل وأطراف النهار؛ بخلاف من سلفنا فقد كانت المساجد عندهم بيوتاً للعبادة، ومدارس العلم، وملتقى المسلمين ومنطلقهم، فيها يتعارفون ويتآلفون، ومنها يستمدون الزاد الأخروي، ونور الإيمان، وقوة اليقين، بها تعلقت قلوبهم، وإليها تهوى أفئدتهم، هي أحب إليهم من بيوتهم وأموالهم، فلا يملون الجلوس فيها وإن طالت مدته، ولا يسأمون التردد عليها وإن بعدت مسافته، يحتسبون خطاهم إليها، ويستثمرون وقتهم فيها، فيتسابقون في التبكير إليها، هذه حالة السلف في المساجد.

وأما حال الكثير من المسلمين اليوم فهي كما نرى ونسمع: كثر التأخر عن المساجد، وقل الجلوس فيها، ففات بذلك من الخير الكثير على الأمة، وضعفت منزلة المساجد في قلوب كثير من الناس، وقلَّ تأثيرها فيهم، فظهر الجفاء، وتناكرت القلوب، وتفككت الروابط حتى أصبح الجار لا يعرف جاره، ولا يدري عن حاله، ألا فلنتق الله – تعالى -، ولنعد للمساجد مكانتها في القلوب، ولنبكر في الذهاب إليها، والإكثار من الجلوس فيها، ولنسمع ما جاء عن النبي  من الحث على المشي إلى المساجد، والجلوس فيها، فعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : صلاة الرجل مع الجماعة تضعف على صلاته ببيته، وفي سوقه؛ خمساً وعشرين درجة، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة؛ لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم أرحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة [رواه البخاري برقم 620].

وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط [رواه مسلم برقم 251].

وعن بريدة  عن النبي  قال: بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة [رواه أبو داود برقم 561 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2823].

وعن أبي هريرة  عن النبي  قال: أحب البلاد إلى الله – تعالى – مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها[رواه مسلم برقم 671].

لقد عظم الله شأن المساجد، وأثنى على الذين يعمرونها بالطاعة، ووعدهم جزيل الثواب قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ۝ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ۝ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].

اللهم اجعلنا من عمار المسجد يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من الذين تعلقت قلوبهم بالمسجد يا رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.