من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً

من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه

 

الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، والصلاة والسلام على خير خلقه محمداً من جاءنا بالبينات والهدى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإنَّ للشهوات سلطاناً على النفوس، واستيلاء وتمكناً في القلوب، فتركها عزيز، والخلاص منها عسير، ولكن من اتقى الله كفاه، ومن استغنى به أغناه، ومن استعان به أعانه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} سورة الطلاق(3). وإنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها مخلصاً لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول وهلة؛ ليُمتَحن أصادق في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة، وكلما ازدادت الغربة في المحرم، وتاقت النفس إلى فعله، وكثرت الدواعي للوقوع فيه عظُم الأجرُ في تركه، وتضاعفت المثوبة في مجاهدة النفس على الخلاص منه. ولا ينافي التقوى ميلُ الإنسان بطبعه إلى الشهوات، إذا كان لا يغشاها، ويجاهد نفسه على بغضها، بل إنَّ ذلك من الجهاد، ومن صميم التقوى، ثم إنَّ من ترك لله شيئاً عوّضه الله خيراً منه1، والعوض من الله أنواع مختلفة، وأجلّ ما يُعوّضُ به: الأنسُ بالله، ومحبته، وطمأنينة القلب بذكره، وقوته، ونشاطه، ورضاه عن ربه -تبارك وتعالى-، مع ما يلقاه من جزاء في هذه الدنيا، ومع ما ينتظره من الجزاء الأوفى في العقبى2. وإليك- أخي الحبيب- أسوق إليك هذه الأمثلة تؤيد قاعدة من ترك الله شيئاً عوّضه الله خيراً منها؛ قال ابن القيم –رحمه الله- وهو يتحدث عن هذه القاعدة:كما ترك يوسف الصديق -عليه السلام- امرأة العزيز لله، واختار السجن على الفاحشة، فعوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال فتزوجها، فلما دخل بها، قال: هذا خير مما كنت تريدين. فتأمل كيف جزاه الله -سبحانه وتعالى- على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأذل له العزيز امرأته، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته، وهذه سنته –تعالى- في عباده قديماً وحديثاً إلى يوم القيامة، ولما عقر سليمان بن داود -عليهم السلام- الخيل التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس سخر الله له الريح يسير على متنها حيث أراد، ولما ترك المهاجرون ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا، وملكهم شرق الأرض وغربها، ولو اتقى الله السارق وترك سرقة المال المعصوم لله لآتاه الله مثله حلالاً، قال الله –تعالى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} سورة الطلاق(2)(3). فأخبر الله -سبحانه وتعالى- أنه إذا اتقاه بترك أخذ مالا يحل له رزقه الله من حيث لا يحتسب، وكذلك الزاني لو ترك ركوب ذلك الفرج حراماً لله لأثابه الله بركوبه أو ركوب ما هو خير منه حلال3. ولعلَّ أبرز مثال على هذه القاعدة قصة يوسف مع امرأة العزيز، فلقد اجتمع ليوسف ما لم يجتمع لغيره، وما لو اجتمع كله أو بعضه لغيره لربما أجاب الداعي، بل إن من الناس من يذهب لمواقع الفتن بنفسه، ويسعى لحتفه بظلفه، ثم يبوء بعد ذلك بالخسران المبين، في الدنيا والآخرة، إن لم يتداركه الله برحمته. أما يوسف -عليه السلام- فقد اجتمع له من دواعي الزنا ما يلي:

1.   أنه كان شاباً، وداعية الشباب إلى الزنا قوية.

2.   أنه كان عزباً، وليس له ما يعوضه ويرد شهوته.

3.   أنه كان غريباً، والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه بين أصحابه ومعارفه.

4.   أنه كان مملوكاً، فقد اشتُري بثمن بخس دراهم معدودة، والمملوك ليس وازعُه كوازع الحر.

5.   أن المرأة كانت جميلة.

6.   أن المرأة ذات منصب عال.

7.   أنها سيدته.

8.   غياب الرقيب.

9.   أنها قد تهيأت له.

10.        أنها أغلقت الأبواب.

11.        أنها هي التي دعته إلى نفسها.

12.        أنها حرصت على ذلك أشد الحرص.

13.        أنها توعدته إن لم يفعل بالصغار.

ومع هذه الدواعي صبر إيثاراً واختياراً لما عند الله، فنال السعادة والعز في الدنيا، وإن له للجنة في العقبى، فلقد أصبح السيد، وأصبحت امرأة العزيز فيما بعد كالمملوكة عنده، وقد ورد أنها قالت: سبحان من صير الملوك بذلك المعصية مماليك، ومن جعل المماليك بعز الطاعة ملوك4. وهناك أمثلة أخرى على قاعدة من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه، فهذه قصة أصحاب الغار الذي رواها البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء! لا ينجيكم إلاّ الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه. فقال واحدٌ منهم: اللهم! إن كنت تعلم أنه كان لي أجيرٌ عمل لي على فَرَق من أُرُز فذهب وتركه، وأني عمدت إلى ذلك الفَرِق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقراً، وأنه أتاني يطلب أَجَرَه فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنها من ذلك الفرق، فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك، ففرج عنا، فانساحت عنهم الصخرة. فقال الآخر: اللهم! إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبوييَ، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنَّا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر؛ فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر: اللهم! إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عمٍ من أحب الناس إلي، وأني راودتها عن نفسها، فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها فقالت: اتق الله! ولا تفُضّ الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة الدينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا)5، فتأمل كيف عوض الله من ترك الزنا، وترك المقابل فعل كل ذلك خوفاً من الله، فعوضه الله أن فرج عنه الكربات، وأجاب دعوته. وهذه قصص أخرى على هذه القاعدة؛ قال الحسن البصري: كانت امرأة بغي قد فاقت أهل عصرها في الحسن لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وإن رجلاً أبصرها فأعجبته، فذهب فعمل بيديه، وعالج فجمع مائة دينار، فجاء فقال: إنك قد أعجبتني، فانطلقت فعملت بيدي وعالجت حتى جمعت مائة دينار، فقالت: ادفعها إلى القهرمان حتى ينقدها ويزنها، فلما فعل، قالت: ادخل، وكان لها بيت منجد، وسرير من ذهب، فقالت: هلم لك، فلمَّا جلس منها مجلس الخائن، تذكر مقامه بين يدي الله، فأخذته رعدة، وطفئت شهوته، فقال: أتركيني لأخرج ولك المائة دينار، فقالت: ما بدا لك وقد رأيتني كما زعمت، فأعجبتك، فذهبت فعالجت وكدحت حتى جمعت مائة دينار، فلما قدرت عليَّ فعلت الذي فعلت، فقال: ما حملني على ذلك إلاَّ الفَرَق(أي الخوف) من الله، وذكرت مقامي بين يديه، قالت: إن كنت صادقاً فمالي زوج غيرك، قال: ذريني لأخرج، قالت: لا، إلاَّ أن تجعل لي عهداً أن تتزوجني، فقال: لا، حتى أخرج، قالت: عليك عهد الله إن أنا أتيتك أن تتزوجني، قال: لعلَّ، فتقنع بثوبه ثم خرج إلى بلده، وارتحلت المرأة بدنياها نادمة على ما كان منها، حتى قدمت بلده، فسألت عن اسمه ومنزله، فدلت عليه، فقيل له: الملكة جاءت بنفسها تسأل عنك، فلما رآها شهق شهقة فمات، فأسقط في يدها، فقالت: أما هذا فقد فاتني، أما له من قريب؟ قيل: بلى، أخوه رجل فقير، فقالت: إني أتزوجك حباً لأخيك، قال: فتزوجته، فولدت له سبعة أبناء. وقال يحيى بن أيوب: كان بالمدينة فتى يعجب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- شأنه، فانصرف ليلة من صلاة العشاء، فتمثلت له امرأة بين يديه، فعرضت له بنفسها، ففتن بها، ومضت فأتبعها، حتى وقف على بابها، فأبصر وجلاً عن قلبه، وحضرته هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} سورة الأعراف(201). فخر مغشياً عليه، فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت، فلم تزل هي وجارية لها يتعاونان عليه حتى ألقياه على باب داره، فخرج أبوه فرآه ملقى على باب الدار لما به، فحمله وأدخله، فأفاق فسأله: ما أصابك يا بني؟ فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره، فلما تلا الآية شهق شهقة فخرجت نفسه، فبلغ عمر -رضي الله عنه- قصته، فقال: ألا آذنتموني بموته، فذهب حتى وقف على قبره فنادى: يا فلان!: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} سورة الرحمن(46). فسمع صوتاً من داخل القبر: قد أعطاني ربي يا عمر!6. وهذه أم سلمة لمَّا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها -إلا أخلف الله له خيراً منها). قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قالت أرسل إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له فقلت: إن لي بنتا وأنا غيور، فقال: (أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها وأدعو الله أن يذهب بالغيرة)7. فحري بالمسلم العاقل الحازم، أن يتبصر في الأمور، وأن ينظر في العواقب، وألا يؤثر اللذة الحاضرة الفانية على اللذة الآجلة الباقية؛ قال الله- تعالى-: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} سورة الأعلى (16)(17). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


1 – راجع: مطوية بعنوان: "من ترك الله شيئاً عوضه الله خيراً منه" لمحمد بن إبراهيم الحمد- دار ابن خزيمة.

2 – انظر الفوائد لابن القيم صـ(107) الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة الثانية(1393). بمعناه.

3 – راجع روضة المحبين، صـ (445) الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، (1412هـ).

4 – راجع مطوية بعنوان: " من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه" لمحمد بن إبراهيم الحمد  دار ابن خزيمة.

5 -رواه البخاري ومسلم.

6 – راجع روضة المحبين (445) الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، (1412هـ).

7 – رواه مسلم.