حق الجار وحرمة أذيته

حق الجـار وحرمة أذيته

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدِ، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالكٌ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}آل عمران: 102.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}النساء: 1.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}الأحزاب: 70-71.

عباد الله إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أجارني الله وإياكم من البدع والضلالات.

أيها المسلمون: لقد أوصى ديننا الحنيف بالجار، وأعلى من قدره؛ حيث قرن الله حق الجار بعبادته -عز وجل- وبالإحسان إلى الوالدين، واليتامى، والأرحام.

قال الله-عز وجل-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} النساء: 36. قال الإمام الطبري -رحمه الله-: (فأوصى ربنا -جل جلاله- بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم، فحق على عباده حفظ وصية الله فيهم، ثم حفظ وصية رسوله -صلى الله عليه وسلم-)(1)، وقد ذكر المفسرون معنى قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي: الذي بينك وبينه قرابة، وقيل: الجار المسلم. أما قوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي: الذي ليس بينك وبينه قرابة، وقيل اليهود والنصارى، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} أي: الرفيق في السفر، وقيل: الزوجة(2).

أما السنَّةُ النبويةُ فقد استفاضت نصوصُها في بيان رعاية حقوقِ الجارِ، والوصايةِ به، وصيانةِ عرضه، والحفاظ على شرفه، وستر عورته، وسدّ خلَّته، وغضِّ البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه، ويسيء إليه.

ومن أجلِّ تلك النصوص وأعظمها ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة وابن عمر -رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مازال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنه سيوَرِّثه) أي: ظننت أنه سَيبْلُغني عن الله الأمرُ بتوريث الجارِ الجارَ(3).

أيها المسلم: الجار في الاصطلاح الشرعي هو من جاورك جواراً شرعياً، سواء كان مسلماً أو كافراً، براً أو فاجراً، صديقاً أو عدواً، محسناً أو مسيئاً، نافعاً أو ضاراً، قريباً أو أجنبياً، غريباً أو بلدياً.

وله مراتب بعضها أعلى من بعض، تزيد وتنقص بحسب قربه وقرابته، ودينه وتقواه، ونحو ذلك؛ فيعطى بحسب حاله وما يستحق.

أما حدّ الجوار؛ فقد اختلفت عباراتُ أهل العلم في حدِّ الجوار المعتبر شرعاً، والأقـرب -والله أعلم- أن حدَّ الجوار يُرجع فيه إلى عُرْفِ الناس؛ فما عُلِمَ عُرْفاً أنه جارٌ فهو جار.

ولا ريب أن الجوارَ في المسكن هو أجل صور الجوار وأوضحُها، ولكنَّ مفهوم الجار والجوار لا يقتصر على ذلك فحسب، بل هو أعمُّ من ذلك وأشمل؛ فالجار معتبرٌ في المتجر، والسوق، والمزرعة، والمكتب، ومقعد الدرس.

ومفهومُ الجارِ يشمل الرفيقَ في السفر؛ فإنه مجاورٌ لصاحبه مكاناً وبدناً، والزوجةُ كذلك تسمى جارةً، وكذلك مفهومُ الجوارِ يشمل الجوارَ بين المدن، والدول، والممالك، فلكل منهما حق على الآخر.

أيها المسلمون: إنَّ حقوق الجار على وجه التفصيل كثيرة جداً، أما أصولها فتكاد ترجع إلى أربعـة حقوق.

أولها: كف الأذى: فالأذى على كل أحد بغير حق محرم، وأذية الجار أشد تحريماً، جاء في صحيح البخاري عن أبي شريح -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)، قيل: من يا رسول الله؟ قال: (من لا يأمـن جاره بوائقـه). وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه(4)).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره). وفي مسند الإمام أحمد، والأدب المفرد للبخاري، وعند الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل: يا رسول الله إن فلانةً تصلي الليل، وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها -سليطة-، قال: (لا خير فيها هي في النار).

وقيل له: إن فلانةً تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار (وهي القطع الكبيرة من الأقط: وهو اللبن الجامد المستحجر) وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي جيرانـها، قال: (هي في الجنة)(5). ولفظ الإمام أحمد: (لا تؤذي بلسانها جيرانـها).

بل لقد جاء الخبر بلعن من يؤذي جاره، ففي حديث أبي جُحيفة -رضي الله عنه- قال: (جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكو جاره فقال له: (اطرح متاعك في الطريق)، قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من الناس؟ قال: (وما لقيتَ منهم؟)، قال: يلعنوني، قال: (قد لعنك الله قبل الناس) قال: يا رسول الله فإني لا أعود)(6).

ولقد كان العرب يمتدحون بكف الأذى عن الجار، قال هُدْبَةُ بنُ الخَشْرم:

ولا نَخْذِلُ المولى ولا نرفع العصا               عليه ولا نزجي إلى الجار عقربا

وقال لبيد بن ربيعة:

وإن هوانَ الجارِ للجار مؤلمٌ            وفاقرةٌ تأوي إليها الفواقر(7)

الثاني من حقوق الجار: حماية الجار: فمما ينبه لشرف همّة الرجل نهوضُه لإنقاذ جاره من بلاءٍ يُنال به في عرضه، أو بدنه أو ماله، أو نحو ذلك.

ولقد كانت حمايةُ الجار من أشهر مفاخر العرب التي ملأت أشعارهم، قال عنترة:

وإني لأحمي الجارَ من كل ذلّة          وأفرحُ بالضيف المقيم وأَبْهَجُ

وقالت الخنساءُ تمدح أخاها بحمايته جارَه:

وجارُكَ مَحْفُوظٌ منيعٌ بنجوة            من الضيم لا يُؤذى ولا يتذللُ

بل لقد غالى العرب، وبالغوا في المحاماة عن الجار؛ إذ لم تتوقَّف محاماتُهم عن الجار الإنسان، بل لقد تعدّوا ذلك؛ فأجاروا ما ليس بإنسان إذا نـزل حول بيوتهم حتى ولو كان لا يعقل ولا يستجير؛ مبالغةً في الكرامة والعزَّة، وتحدياً لأن يَخْفِرُ الجوارَ أحدٌ، مثل ما فعل مدلجُ بنُ سويدٍ الطائيُّ، الذي نـزل الجرادُ حول خبائه؛ فمنع أن يصيدَه أحدٌ حتى طار وبَعُدَ عنه. وكان كليبٌ يجير الصيدَ، فلا يَعْرِضُ له أحدٌ.

فحق الجار عظيم، وأذيته محرمة، فلا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يأذي جاره،

ومن أعظم الأذية أن يخون الجارُ جارَه في أهله، فيترصد غيبته، أو عفته فيفعل السوء فيهم، وهذا من أعظم الذنوب عند الله، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) قال: قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) قال: قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تزاني حليلة جارك)(8).

قال الإمام النووي -رحمه الله-: (ومعنى: "تزاني" أي تزني بها برضاها وذلك يتضمن الزنى وإفسادها على زوجها، واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحاً وأعظم جرماً؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه، ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية من القبح)(9).

نسأل الله أن يهدي قلوبنا للحق، وأن يجعلنا ممن يقومون بحقوق جيرانهم، قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على خير خلقه أجمعين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن من حقوق الجار -أيضاً-: الإحسانُ إليه؛ وهذا دليل الفضل، وبرهان الإيمان، وعنوان الصدق.

جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) ولمسلم –أيضاً-: (فليحسن إلى جاره).

ومن ضروب الإحسان إلى الجار تعزيته عند المصيبة، وتهنئته عند الفرح، وعيادته عند المرض، وبداءته بالسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وإرشاده إلى ما ينفعه في دينه ودنياه، ومواصلته بالمستطاع من ضروب الإحسان.

الرابع: من حقوق الجار احتمال أذاه: وذلك بأن يغضيَ عن هفواته، ويتلقى بالصفح كثيراً من زلاته، ولا سيِّما إذا صدرت إساءة من غير قصد، أو إساءة ندم عليها، وجاء معتذراً منها؛ فاحتمالُ أذى الجارِ ومقابلةُ إساءتِه بالإحسان من أرفع الأخلاق، وأعلى الشيم.

ولقد فقه السلف هذا المعنى، وعملوا به، روى المرّوذي عن الحسن: ليس حسنُ الجوارِ كفَّ الأذى، حسنُ الجوارِ الصبرُ على الأذى.

هذه هي الأصولُ الأربعةُ التي عليها مدارُ حقوقِ الجارِ، ومع عظم ذلك الحقِّ إلا أن هناك تقصيراً كبيراً في حقِّ الجار من كثيرٍ من الناس.

فمن صورِ ذلك التقصير مضايقةُ الجارِ، وحسدُه، واحتقارُه، وكشفُ أسراره، وتتبعُ عثراته، والفرحُ بزلاته.

ومن ذلك: إيذاؤه بالجلبة، ورفعُ الأصوات، وتأجيرُ مَنْ لا يرغب الجيران في إسكانه.

ومن صور التقصير في حق الجار: قلةُ الإحسان إليه، وتركُ النهوضِ لحمايته، وقلةُ الحرص على التعرُّف على الجيران، وقلةُ التفقُّد لأحوالهم.

ومن ذلك: قلّةُ التهادي بين الجيران، والتكبُّرُ عن قبول هداياهم، ومنعُهم ما يحتاجون إليه من الأدوات اليسيرة، وقلةُ الاهتمام بإعادة المعار من الجيران إليهم.

ومن صور التقصير في حق الجيران: تركُ الإجابةِ لدعوتهم، وقلَّةُ المبالاة بدعوتهم إلى الولائم والمناسبات، وقلَّةُ المناصحة لهم، وقلةُ التعاون معهم على البر والتقوى.

ومن ذلك: كثرةُ الخصومةِ معهم، والتهاجرُ، والتدابرُ عند أدنى سبب، وقلةُ الحرص على إصلاح ذات البين إذا فسدت بين الجيران.

ومن صور التقصير في حق الجار: تركُ الإحسان إلى الجار الغريب، وقلّةُ العناية باختيار الجار الصالح، والتفريطُ به، وقلّةُ الوفاء للجيران بعد الرحيل عنهم.

نسأل الله بمنه وكرمه أن يهدي قلوبنا للإيمان، اللهم علمنا ما ينفعنا ونفعنا بما علمتنا، زدنا علما، اللهم ارحمنا وجعلنا من المخلصين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 – تفسير الطبري (4/80).

2 – راجع: تفسير ابن كثير (1/656)، وفتح القدير (1/699).

3 – راجع: فتح الباري (10/441).

4 – قال الحافظ في الفتح (10/443): "البوائق: جمع بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافى بغتة".

5 – وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم (2560).

6 – أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والبزار، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "صحيح لغيرة" انظر صحيح الترغيب والترهيب رقم (2558).

7 – مجمع الحكم والأمثال.

8 – متفق عليه.

9 – شرح صحيح مسلم (2/81).