تفسير سورة العصر

 تفسير سورة العصر

 الحمد لله الذي جعل كتابه كافيا، لكل ما سواه هاديا، من كل داء شافيا، والى كل خير داعياً، والصلاة والسلام على أفضل رجل عرفته البشرية، وخير إنسان وطئ الكرة الأرضية

أما بعد:

 أيها المبارك: سنعيش وإياك في رحاب هذه السورة الكريمة، نجول فى ظلالها، ونتنسم أريجها، ونترسم منهاجها، ونقتبس من أنوارها، ونقتطف من رياضها.

  هذه السورة الكريمة التي بينت لنا طريق النجاة من الخسران، والفوز بالرضوان، قال عنها الإمام الشافعي: لو تدبر الناس في هذه السورة لو سعتهم.

وقال أحد السلف: تعلمت معنى السورة من بائع الثلج، الذي كان يطوف في السوق وهو ينادي ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله، فقلت هذا معنى قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ }1 يمر به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب ما ينفعه فإذا هو خاسر.

تسميتها:

سميت هذه السورة الكريمة بسورة العصر، لإقسام المولى -سبحانه وتعالى-بالعصر، وهو الزمان أو جزء منه، على تحقق وتأكد خسارة الإنسان إذا لم يسلك طريق النجاة القائم على الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر في زمانه الذي أشارت مطلع السورة إليه بقوله – سبحانه- :" والعصر" .

تصنيفها:

هذه السورة مكية كما ورد عن ابن عباس وغيره، وهو قول جمهور المفسرين، وذهب قتادة إلى أنها مدنية والرأي ما قاله جمهور العلماء.2  

ما ورد في فضلها:  

روى الطبراني بسنده عن عبد الله بن عبد الله بن الحصين الأنصاري أنه قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا التقيا لم يفترقا؛ إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر.3  

وقال الإمام الشافعي: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.

 يقول ابن القيم معقباً بكلام نفيس موضحاً مراد الشافعي: " وبيان ذلك أن المراتب أربعة: وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله، إحداها:معرفة الحق، الثانية: عمله به، الثالثة: تعليمه من لا يحسنه، الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه، فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، واقسم – سبحانه – في هذه السورة بالعصر إن كل احد في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة، وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى، وتواصوا بالحق وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا فهذه مرتبة ثالثة، وتواصوا بالصبر صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة، وهذا نهاية الكمال فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل"4.

 فهذه السورة على اختصارها هي من اجمع سور القرآن للخير بحذافيره، وما ذلك إلا؛ لأنها جمعت في ثلاث آيات منهجا متكاملاً شاملاً للنجاة من الخسران، لذا كان حرص صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قراءتها كبيراً وعظيماً

بين يدي السورة:

تقرر هذه السورة وتؤكد حقيقة مهمة لا تتبدل ولا تتغير مهما تغيرت الظروف  والأحوال، والأزمنة والأمكنة، ومهما تعاقبت القرون وتوالت الأجيال.

هذه الحقيقة هي التي أقسـم عليها رب العالمين بالعصر { إن الإنسان لفي خسر } وجاءت السورة لتقرر وتذكر بهذه الحقيقة الثابتة وتؤكدها بالقسم " والعصر" وهو من أساليب الإقناع والتأكيد والتنبيه،{ إن الإنسان لفى خسر } ولا سبيل إلى النجاة من هذه الحقيقة المّرة إلا بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهو الزاد الذي يستعين به المؤمن في رحلته الشاقة المضنية المحفوفة بالعقبات والمكاره.

ولصاحب الظلال فى هذا المقام كلام طيب، يقول – رحمه الله -:

  {وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3} }

في هذه السورة  ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام، وتبرز معاني التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة، إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار، وتصف الأمة المسلمة:حقيقتها ووظيفتها، في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة، وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله.5

مع الآيات:

يستهل الله هذه السورة الكريمة بالقسم {وَالْعَصْرِ} وقسمه تعالى في كتابه الكريم لكمال الحجة وتقرير المحجة، وفيه تنبيه للسامع إلى أهمية المقسم عليه، وقطع الحجة على الكافرين المعاندين الذين سلك القرآن بهم جميع طرق الإقناع؛ حتى لا يبقى لهم عذر.

وقـد ذكـر المفسرون أقوالاً متعددة  في بيان المقصود بـ ( العصر )

فقيل : هو أول الوقت الذي يلي المغرب من النهار وقيل : هو آخر ساعة من ساعاته وقيل : المراد صلاة العصر وأكثر المفسرين على أنه الدهر وهذا هو الراجح وتسمية الدهر عصرا أمر معروف في لغتهم قال :

ولن يلبث العصران يوم وليلة     إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

فأقسم سبحانه بالعصر لمكان العبرة والآية فيه، فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدرة العزيز العليم منتظم لمصالح العالم، على أكمل ترتيب ونظام وتعاقبهما واعتدالهما تارة، وأخذ أحدهما من صاحبه تارة، واختلافهما في الضوء والظلام والحر والبرد والحركة والسكون، وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات، وما دونها آية من آيات رب العالمين وبرهان من براهين قدرته وحكمته6   .

  قال الحسن – رحمه الله -: إنما أقسم الله بهذا الوقت تنبيها على أن الأسواق قد دنا وقت انقطاعها، وانتهاء التجارة والكسب فيها، فإذا لم تكتسب ودخلت الدار وطاف العيال عليك يسألك كل أحد ما هو حقه فحينئذ تخجل فتكون من الخاسرين فكذا نقول والعصر أي عصر الدنيا قد دنت القيامة و  أنت بعد لم تعتد وتعلم أنك تسأل غداً عن النعيم الذى كنت فيه في دنياك ، وتسأل في معاملتك مع الخلق وكل أحد من المظلومين يدعى ما عليك فـإذا أنت خاسر ، ونظيره { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ }7 8

{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ }

يعنى بالإنسان هنا جميع الناس فالتعريف هنا تعريف الجنس، فهو لفظ يفيد العموم بدليل الاستثناء منه، والإنسان لا ينفك عن الخسران؛ لأن الخسران هو تضييع عمره، وذلك لأن أي ساعة تمر من عمر الإنسان إما أن تكون في طاعة أو في معصية، فإذا كانت في طاعة فلعل غيرها أفضل منها وهو قادر على الإتيان بها فكان فعل غير الأفضل تضييعاً وخسرانا، وإن كانت في معصية فالخسران بّين، فبان بذلك أنه لا ينفك أحد عن الخسران.

قال صاحب لسان العرب: "الخسر هو النقصان والاضمحلال وذهاب رأس المال، والغبن والضلال خَسِرَ خَسْراً وخَسًرا وخُسرانا وخَسارة وخَسارا، فهو خاسر وخَسِر: أي ضل، والخَسار والخَسارة: الضلال والهلاك، والخَسر والخُسران: النقص، وأخسرته أنقصته، قال تعـالـى في سورة المطففين: { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}9 10

وكل هذه المعاني محتملة، فالهلاك والخسران والشر والضلال والنقصان، كلها من مظاهر الخسر وعواقبه الأليمة.

هذا الخسر مراتب متفاوتة، بحسب الأعمال السيئة التي تؤدى إليه، وما يترتب عليها من عواقب، ولهذا جاء ( خسر ) بصيغة التنكير لإفادة التنويع، ولقد أكد الله تعالى هذا الخبر بالقسم { إنّ } واللام المؤكدة  { لفي } التي تفيد أنه مغمور في الخسر الذي يحيطه من كل جانب، فعليه أن يلتمس سبيل النجاة.

ويمكن أن يكون التنكير للتهويل والتعظيم، فهو خسران عظيم هائل فادح لا يعلم مداه إلا الله، وهو خسران أعظم من خسارة المال والأهل والجاه والسلطان.11

{ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}

فإنهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفانى الخسيس واشتروا الباقى النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، فيا لها من صفقة ما أربحها.12

والاستثناء هنا من جنس الناس فالكل في خسران، إلا أهل الإيمان والعمل الصالح، فالاستثناء متصل أما على الرأي القائل: بأن المراد بالإنسان الكافر: فالاستثناء منقطع؛ لأن المستثنى ليس من ضمن المستثنى منه.

وقوله تعالى:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من عطف الخاص على العام؛ لأن العمل الصالح جزء من الإيمان لا ينفك عنه، إذ الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، وعطف العمل الصالح على الإيمان؛ لبيان مدى أهميته فهو البرهان على صدق الإيمان، وهو الترجمة الواقعية له، وهو من آثاره الطيبة وثمراته اليانعة، وهو جزء منه لا ينفك عنه فالإيمان بلا عمل كالشجر بلا ظل ولا ثمر، والعمل بدون الإيمان كالجسد بلا روح فلا وزن للعمل ولا للإيمان إذا افترق أحدهما عن صاحبه.

وعمل الصالحات يكون بالامتثال لكل ما أمر الله به ودعا إليه، واجتناب كل ما نهى الله عنه وحذر منه 13.

 والتعريف في قوله الصَّالِحَاتِ تعريف الجنس مراد به الاستغراق، فهو يشمل جميع الأعمال الصالحة.

 يقول ابن القيم: "ومن هنا فلا بد من التفريق بين مطلق الخسارة، والخسارة المطلقة فمن ربح في سلعة، وخسر في غيرها، قد يطلق عليه أنه في خسر وأنه ذو خسر، كما قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما )لقد فرطنا في قراريط كثيرة)، فهذا نوع تفريط وهو نوع خسر بالنسبة إلى من حصّل ربح ذلك"14

{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}

ورد في اللسان : وصّى: أوصى الرجل ووصاه: عهد إليه، وتواصى القوم: أوصى بعضهم بعضاً.15

والوصية هى: التقديم إلى الغير، بما يعمل به مقرونا بوعظ ونصيحة، من قولهم: أرض واصية أي: (متصلة النبات).16

ومن هنا فقوله تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} بمعنى أوصى بعضهم بعضاً بلسان المقال ولسان الحال، بإتباع الحق والتمسك به.والحق هو: الأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله.

وسر التعبير بـ{وَتَوَاصَوْا} أنه تعالى مدحهم بما صدر منهم في الماضي، وذلك يفيد رغبتهم في الثبات عليه في المستقبل.17

والتواصى بالحق من العمل الصالح فذكره بعد العمل الصالح من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بأمره.

  {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} كرر الفعل لاختلاف متعلقه، وتخصيص هذا الفعل بالذكر مع اندراجه تحت التواصي بالحق؛ لإبراز كمال الاعتناء به، أو لأن الأول: عبارة عن رتبة العبادة، التي هي فعل ما يرضى الله تعالى، والثاني: عبارة عن رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله، فالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتوق إليه من فعل وترك، بل هو تلقى ما ورد منه تعالى بالقبول والرضا به ظاهراً وباطناً.18

والصبر ثلاثة أنواع: الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على البلايا.

وفي قـولـه تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} بعد قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} إشارة إلى أن طريق الحق ليس مفروشاً بالرياحين، والأشواق، والورود، بل إنه محفوف بالعقبات والأشواك والسدود، والثبات عليه يحتاج إلى صبر جميل، وعزيمة قوية.

نسأل الله أن يجعلنا أعمالنا صالحه، ولوجهه خالصة، ولا يجعل لأحد منها شيء 


1 العصر (2)

2 – جامع البيان للطبري (30\187)

3 – الهثيمي في مجمع الزوائد  والبيهقي في الشعب (6\105)

4 – مفتاح درا السعادة (1\56)

5 – في ظلال القرآن( 6/3964) بتصرف

6 – التبيان في أقسام القران لابن القيم (1\54)

7 سورة الأنبياء آية 1.

8  مفاتيح الغيب للرازى  32/85

9 – لسان العرب لابن منظور(2\1156)

10  المطففين 3

11 يتيمة الدهر في تفسير سورة العصر (18)

12 إرشاد العقل السليم   5/901

13 يتيمة الدهر في تفسير سورة العصر( 19)

14 التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص 116.

15 لسان العرب  6/4853 .

16 حاشية الجمل  4/583

17 مدارك التنزيل للنسفي  4/375

18 إرشاد العقل السليم  5/901