تذكرة مسافر

تذكرة مسافر

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

إن من الأمور التي تحبها النفس البشرية، وتميل إليها: الراحة، والترويح على النفس، وقد تعددت وسائل الراحة اليوم، وتنوعت، ومنها السفر، والتنقل في أرض الله -عز وجل- للتنزه، والترويح على النفس.

وهذا أمر لا غبار عليه، ولا شيء فيه، إلا أن البعض من المسلمين يخلط هذا المباح، وهذه المتعة بشيء من المحرمات، والشبهات التي تنغص هذه المتعة، ويرجع المسافر من سفره محملا بالذنوب، والمعاصي، ولهذا فإن على المؤمن الحريص على نفسه أن يعلم آداب السفر، وأنواعه، وأحكامه؛ ليقي نفسه الوقوع في الزلل، أو الوقوع في أمر ينغص متعة السفر.

تعريف السفر

"السفر هو: قطع المسافة التي بين البلاد والبلاد(1)"، أي: مفارقة محل الإقامة على وجه يسمى سفراً.

أنواع السفر

يقول العلماء: السفر تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، ومندوباً، ومباحاً، ومكروهاً، وحراماً، فيكون السفر واجباً إن اشتمل على واجب، كسفر حج الفريضة، وكذلك السفر لبر الوالد والوالدة، فهذا السفر يكون واجباً، وهكذا بالنسبة للسفر الذي يكون الإنسان فيه يؤدي أمراً واجباً عليه، فإنه يعتبر من الأسفار الواجبة، ويكون السفر مندوباً ومستحباً لو اشتمل على أمر مندوب ومستحب كحج النافلة والعمرة، فهذا مندوب ومستحب، فإنه إذا سافر يقال: هذا سفر مندوب، ويكون السفر مباحاً إذا انتفت فيه الدوافع، سواءٌ أكانت للنّدب أم للوجوب، وانتفت فيه الموانع، سواءٌ أكانت للتحريم أم للكراهة، ومن أمثلته: السفر للتجارة، فإنه يعتبر من المباحات، وهكذا السفر للنزهة، فإنه يعتبر من الأسفار المباحة، ويكون السفر مكروهاً إذا اشتمل على أمر مكروه لا يصل إلى درجة الحرمة، فلو أنه سافر على وجه لا يتضمن الحرام، كما لو كان مشتغلاً بطلب العلم، وهذا السفر يشغله عن طلب العلم فإنه يكون في حقه مكروهاً إذا اتصل هذا السفر بما يوجب شغله عن طلب العلم، ويكون حراماً إذا تضمن أمراً محرماً، كسفره -والعياذ بالله- للزنا، أو لشرب خمر، أو لقطع طريق، أو عقوق والدين، ونحو ذلك، فهذه خمسة أحوالٍ للسفر، فإذا كان سفره مباحاً جاز له أن يترخص، وإذا كان مندوباً جاز له أن يترخص؛ لأن المندوب فيه الإباحة وزيادة، وهكذا إذا كان واجباً؛ لأن الواجب فيه الإباحة وزيادة، ففي هذه الثلاثة الأحوال يجوز له أن يترخص برخص السفر، أما لو اشتمل سفره على معصية كأن يسافر لقطع طريق، أو عقوق والدين -والعياذ بالله- فإن هذا السفر المحرم قد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول يقول: إن السفر المحرم لا يحل لصاحبه أن يترخص فيه، فيجب عليه فيه أن يُتِم الصلاة أربعاً، ولا يأخذ برخص السفر، وهذا مذهب الجمهور -رحمة الله عليهم-.

القول الثاني: من سافر سفر معصية يجوز له أن يترخص، وهو مذهب الحنفية، واختيار بعض المحققين من العلماء -رحمة الله على الجميع-، أما من قال: إنه لا يترخص فإنه يحتج بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}(2) قالوا: إن الاضطرار شرطه أن لا يكون بغياً ولا عدواناً، ولذلك لما فسر حبر الأمة وترجمان القرآن هذه الآية قال: غير قاطع للطريق وذكر المحرمات، فكأنه يرى أنه إذا كان باغياً أو عادياً لا ضرورة له فلا رخصة له، قالوا: وهذا حبر الأمة وترجمان القرآن وقد فسر كتاب الله -عز وجل-، وهو المدعو له أن يُفقَّه في الدين، وأن يُعَلَّم تأويل الكتاب، فقصر الرخص على انتفاء وجود البغي والعدوان، فهذا أولاً، ثانياً: أن السفر إذا أُطلق في الشرع ينبغي أن يتقيد بالمعروف شرعاً، والمأذون به شرعاً؛ لأنه لا يعقل أن الشرع يأذن له بالرخصة مع كونه يمنعه من السفر، فيعتبر السفر من وجهٍ ويحرمه من وجه، قالوا: فهذا شيء من التناقض، فلما كان هذا السفر غير مأذون به شرعاً لم تتصل به الرخص؛ لأنه مأمور بإلغاء هذا السفر، فكيف يباح له أن يترخص فيه؟ والعجيب أن هذا القول من القوة بمكان من جهة الأصل، فإن القاعدة تدل على أنه إذا شك في الرخصة فإنه يرجع إلى الأصل، والأصل أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أربعاً بناءً على أنه مقيم، ولا نعني بالأصل ما سبق التشريع من كون الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فهذا أصل الوصف وليس له تأثير في الاستدلال، وإنما نعني أن الأصل فيه أنه مقيم، ولما شككنا هل هذا السفر سفر رخصة أو ليس برخصة رجعنا إلى الأصل من كونه مطالباً بفعل الصلاة أربعاً، وأما الذين قالوا: إنه يقصر فقالوا: إن الله -عز وجل- أطلق فقال: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}(3)، ولم يفرق بين كونه ضرباً بسفر مباح، أو ضرباً بسفر محرم، وهكذا".(4)

وإذا علم أنواع السفر فيجب على العبد أن يعلم أن للسفر آداب يجب التحلي بها، وأن يجعلها نصب عينيه، من هذه الآداب:

آداب السفر

إذا أراد الإنسان السفر يجب عليه أن:

1.   يجعل نيته خالصة لله – عز وجل- فرب عمل يسير تقويه النية، ورب عمل عظيم تضعفه النية.

2. أن يتحلل من المظالم ويردها إلى أهلها، فقد جاء عن الصادق المصدوق –صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) (5)

3. يجب على المسافر ن يترك لأهله وعياله ومن يعولهم مالا يقتاتون منه، ولا يمنعه عنهم، فعن طلحة بن مصرف عن خيثمة قال: كنا جلوسا مع عبد الله بن عمرو، إذ جاءه قهرمان له فدخل، فقال: أعطيت الرقيق قوتهم، قال: لا، قال فانطلق فأعطهم، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته) (6).

4. إذا كان المسافرون أكثر من ثلاثة يستحب أن يؤمروا عليهم واحدا منهم، فعن نافع عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) (7).

5. إذا كانت المسافرة امرأة يجب عليها أن تسافر مع محرم، وهذا مصداق لما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة ). (8)

6. يستحب للمسافر إذا نال مراده من سفره أن يعود سريعاً إلى أهله، ولا يمكث فوق حاجته، وقد أرشد إلى هذا رسول الله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ( السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله) (9)، قال ابن حجر: وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة، قال ابن بطال: ولا تعارض بين هذا الحديث، وحديث ابن عمر مرفوعا (سافروا تصحوا) فإنه لا يلزم من الصحة بالسفر لما فيه من الرياضة أن لا يكون قطعة من العذاب لما فيه من المشقة، فصار كالدواء المر المعقب للصحة وإن كان في تناوله الكراهة، واستنبط منه الخطابي تغريب الزاني؛ لأنه قد أمر بتعذيبه – والسفر من جملة العذاب – ولا يخفى ما فيه"(10).

هذه بعض التنبيهات التي يجب على من أراد السفر أن يقوم بها عملاً، واقتداءً بسنة الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلم-، والتي ( وللأسف الشديد ) أصبحت غائبة عن كثير من الناس، بل لا يعلمون من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر شيئاً، وتراهم أثناء سفرهم يرتكبون المنهيات بقصد وبغير قصد  جهلا منهم، وهذا نتيجة بعدهم عن تعاليم الدين الحنيف، وعدم معرفتهم للسلوك الذي سار عليه الهادي –صلى الله عليه وسلم-.

نسأل الله -عز وجل- أن يرد أبناء المسلمين إلى دينه مرداً جميلاً، وأن يهدي أبناء المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.


1 شرح "عمدة الأحكام " الجبرين (22/3).

2 سورة البقرة:(173). 

3 سورة النساء:(101).

4 شرح زاد المستقنع للشنقيطي (3/181- 182) بتصرف يسير.

5 صحيح البخاري (2449).

6 صحيح مسلم (2359).

7 سنن أبي داود (2608)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (7/363).

 

8 صحيح البخاري (1038)، مسلم (3334).

9 فتح الباري لابن حجر (6/10).

10 البخاري(1804).