التبيُّن في الأخبار

 

 

التبيُّن في الأخبار

الحمد لله القائل في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}1، والصلاة والسلام على أفضل الخلق القائل: (كفى بالمرءكذباً أن يحدث بكل ما سمع)2 صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن سار على طريقتهم إلى يوم الدين.. أما بعد:

 أيها الإخوة الأحباء في الله: إن من أهل مقامات اللسان ومن أهم أعمالها القولية هوالتبين والتثبت في الأخبار والأقوال، وأن من أهم أعمال الجوارح أيضاً: التبين والتثبت في الأعمال والأفعال والأحكام.

ولذلك ينبغي للمسلم أن يتعرف على هذا الخلق، كيف يكون متبيناً متثبتاً في جميع أحواله، أو في أغلب أحواله على الأقل ليحذر بنفسه خواطر وعواقب ضد هذا الخلق.

وسوف نتكلم عن هذا الموضوع على النحو الآتي:

أولاً: التبيُّن لغةً واصطلاحاً:

 لغةً: مصدر تبين إذا تثبت في الأمر، والتثبت في الأمر والتأني فيه ويقال: تبينت الأمر أي تأملته وتوسمته. والبيان: ما بين به الشيء من الدلالة وغيرها.3

واصطلاحاً: التبين مرتبة من مراتب وصول العلم، يراد بها ما يحصل من العلم بعد الالتباس، قال الكفوي: التبين هو علم يحصل بعد الالتباس، ثم الاستبصار وهو العلم بعد التأمل ..)4.

وهذا يؤكد أن التبين والتثبت معناهما واحد لغةً. وأيضاً يدل على ذلك استعمال القرآن الكريم . قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا). قرأ عامة أهل المدينة (فتثبتوا) بدل(فتبينوا).

ثانياً:-أهمية التبين (التثبت) في الشريعة:

1- تقوية ملكة التقوى والمراقبة لله -سبحانه وتعالى-: فإن هذه إن تأكدت في النفس، فسوف تحمل صاحبها حملاً على التأني والتروي والإنصاف ونقل الحقيقة كما هي دون زيادة ولا نقصان.

2- التذكير بين يدي الله -سبحانه وتعالى- للمساءلة والجزاء.

3- معايشة الكتاب والسنة من خلال هذه النصوص المتصلة بقضية التثبت أو التبين.

4- دوام النظر في سير أخبار السلف.

5- التربية على ذلك من خلال الأحداث والوقائع:  على نحو ما جاء في قصة أسامة بن زيد مع الجهني في سورة النساء، وعلى نحو ما جاء في حادثة الإفك في سورة النور، وعلى نحو ما في قصة داود -عليه السلام- مع الخصمين في سورة (ص)، وعلى نحو ما جاء في قصة سليمان مع الهدهد في سورة النمل، وعلى نحو ما جاء في قصة الوليد بن عقبة مع بني المصطلق في سورة الحجرات، فإن هذا اللون من التربية يثبت في النفس ولا ينسى نظراً لارتباطه بالحدث أو بالقصة.

6- الحكمة من التعامل مع الناس، فلا تخدعنا الظواهر والأشكال والصور، ولا نبالغ في البحث والتفتيش عن البواطن، وإنما ندع الواقع ليحدد لنا كيفية وأسلوب التعامل مع مراعاة ضوابط الشرع في ذلك.5

ثالثاً: الآيات الواردة في التبين، منها:

 1- الآية السابق ذكرها، وهي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}الحجرات 6 .

قال ابن سعدي -رحمه الله-:6

(وهذا أيضاً من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها وهو: أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ أي خبر، أن يتثبتوا في خبره ولا يأخذوه مجرداً، فإن ذلك خطراً كبيراً، ووقعاً في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سبباً للندامة. بل الواجب عند سماع خبر الفاسق التبين والتثبت، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه كُذب ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف عليه).

2- وقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (94) سورة النساء.

رابعاً : الأحاديث الواردة في التبين، منها:

1- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله  فسلم عليهم قالوا: ما سلَّم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا فقتلوه، وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله  فأنزل الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ)الآية..7

2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي  : (كفىبالمرء كذباً أن يُحدِّث بكل ما سمع).8

3- عن بريدة أن ماعز بن مالك الأسلمي -رضي الله عنه- أتى رسول الله  فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وأني أريد أن تطهرني، فرده، ثم قال مثل الأولى، ثم رده الثانية. فأرسل رسول الله   إلى قومه فقال: (أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً؟) فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه  الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فقالوا له مثل الأول، فلما كان  الرابعة حفر له حفرة، ثم  أمر به فرجم).9

4- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي   فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود. فقال النبي  : (هل لك من إبل). قال: نعم، قال: (فما ألوانها؟) قال: حُمْر، قال: (هل فيها من أورق) قال: نعم، إن فيها لورقاً. قال: (فأنى أتاها ذلك؟) قال: عسى أن يكون نزعة عرق، قال: (وهذا عسى أن يكون نزعة عرق).10

خامساًً: من الآثار الواردة في (التبين):

1- روي عن علي -رضي الله عنه- أن رجلاً سعى إليه برجل فقال له: (يا هذا نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقا ًمقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين).11

2-روي عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً. فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات (6)، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: (هماز مشاء بنميم) القلم (11)، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً).12

سادساً: من فوائد التبين:

1- حفظ الأرواح وصيانة الدماء.

2- دليل رجاحة العقل وسلامة التفكير.

3- يثمر الثقة بالنفس.

4- التبين يحفظ حقوق الأفراد والجماعات ولا يجعلها عرضة للظن.

5- يقي المجتمع من مخاطر القرارات السريعة غير المدروسة.13

نسأل الله أن يوفقنا للقيام بدينه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يلهمنا الأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، إنه سميع مجيب.  


1 (6) سورة الحجرات.

2 رواه مسلم.

3 (انظر لسان العرب 13/67 – 68) .

4 الكليات للكفوي (8911).

5 انظر آفات على الطريق 2/119- 123 علاج آفة عدم التثبت .. د/ سيد محمد نوح). بتصرف.

6 في تفسيره: (5/68 – 69).

7– رواه البخاري مختصراً ، والترمذي، والحاكم.

8 – رواه مسلم.

9 رواه البخاري ومسلم.

10 رواه البخاري ومسلم. وقوله: (أورق) الأورق من الإبل الذي في لونه بياض إلى سواد، وهو أطيب الإبل لحماً (الصحاح (4/1565).

11 إحياء علوم الدين للغزالي (3/107).

12 المصدر السابق (3/156).

13 موسوعة نظرة النعيم (3/901-908) موضوع  (التبين) بتصرف.