المؤمن ليس له إجازة
الحمد لله رب العالمين إله الأولين والآخرين وجامع الناس إلى يوم الدين، الحمد لله خلق الخلق وأحصاهم عددا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن المعلوم أن المؤمن ليس له إجازة ولا انتداب ولا مخصصات ولا عادات، المؤمن ليس له حفل مولد يحتفل به، ولا مهرجان تخرج، فالمؤمن ليست له إجازة، إن المؤمن لا يزال في هم وغم حتى يلقى الله تبارك وتعالى، فيلقي عصا الهموم والغموم بين يدي الله – تبارك وتعالى -، فإن الله كتب على أهل الإيمان أنهم في ابتلاء واختبار، ولا تزال الدنيا تصب همومها وغمومها على أهل الإيمان حتى يلقوا الله العظيم الرحمن – تبارك وتعالى -؛ ولكنها إجازة بمعنى.
فيا مَن متعك الله بأيامٍ خلوتَ فيها عن الأشغال والأعمال تذكر نعمة الله الكبير المتعال، تذكر المأسور برزق أهله، لا يجد إجازة في يومه وليلته ليستريح.
تذكر المريض طريح الفراش، لا يستطيع أن يقوم عن فراشه؛ لكي يتمتع بما أنت فيه من النعم، فلتشكر الله – تبارك وتعالى – الذي أعطاك الفراغ وتحمده – تبارك وتعالى – أولاً وآخراً، وقل اللهم لك الحمد يا ربنا أن فرَّغت قلبي من الشواغل، فأسألك يوماً يرضيك وغداً يكون في مراضاتك، سل الله – تبارك وتعالى – أن يوفقك فيه للصالحات، ثم اغتنم هذه الإجازة، فإنها أيامٌ قليلة إما حُجَّةٌ لك، أو حُجَّةٌ عليك.
أخي في الله، إخواني في الله: كم من إنسان سرَّه أن يبقى إلى زمان ساءه ذلك الزمن إذا بقي إليه، فسلوا الله العافية، فإن الأيام فيها مغيَّبات لا يعلمها إلا الله عالم المغيَّبات، سلوا الله العافية، واسألوه أن يمتعكم بأيامٍ ترضيه عنكم، واعلموا -إخواني- أن أفضل ما تُقْضَى فيه الأعمار، وأفضل ما يُسْتَغل فيه الليل والنهار: ذكر الله الواحد القهار، فأكثروا من ذكر الله، فإن خرَجْتَ إلى البَرِّ: فانظر إلى الأرض، وقل: سبحان من دَحَاها! { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}(سورة النازعات:31).، ثم انظر إلى السماء وقل: سبحان من بناها! جل جلاله وتقدست أسماؤه: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}(سورة النازعات:28-29).، ثم انظر إلى هذا الملكوت الذي جعله الله – تبارك وتعالى – مُذكِّراً بأنه سبحانه واحد أحد خالق كل شيء ومالكه، كل مَن حولك يقول بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله! انظر إلى ورق النبات وقل: سبحان من أجرى الماء فيها! سبحان من أحياها بعد موتها! وانظر إلى الأرض وهي مخضرة وقل: سبحان من زيَّنها وأنبتها جل جلاله، وتقدست أسماؤه! سبحانه وبحمده، ثم انظر إلى الحشرات، والهوامِّ وقل: سبحان من أحصاها عداً! ولا يغيب عنه منها فرداً، جل جلاله وتقدست أسماؤه! سبحانه وبحمده، وانظر إلى تلك الأمم التي تسعى فتغدوا وتروح من تكفَّل بأرزاقها! سبحان من أغناها وأولاها!.
ثم انظر إلى الليل إذا أرخى بظلامه، فقبل دقائق يسيرة وأنت في ضياء الشمس، وإذا بك في ليل مظلم بهيم! لم يختلط الليل بالنهار، ولم يسبق العشي الإبكار! قال الله – تبارك روتعالى -: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(سورة يس:40).، فسبحان الله الواحد القهار! سبحانه! في لحظة واحدة أظلمت عليك الدنيا، لو أخرجتَ يدك لن تَرى شيئاً فيها! فسبحان الله وبحمده! وانظر إلى تلك الظلمات، واذكر ظلمة والقبر، علَّها أن توقظ قلبك فتنتبه من غفلتك لله العظيم الشكور سبحانه.
فإذا أرخى عليك الليلُ سدولَه؛ فانظر إلى السماء وتفكر في ملكوتها وقل: سبحان من زيَّنها بالكواكب زينة وشهباً! قال الله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ}(سورة الصافات:6- 7).، ثم انظر إلى النهار وقل: سبحان من أقبله بضيائه! سبحان من أجرى شمسه! سبحان من أشع نوره! إنها آياتٌ محكمات ما أوجدها الله عبثاً، بل أوجدها لكي تخرج من هذا المكان – أي: الحياة الدنيا – وأنت على عقيدة بأنه "لا إله إلا الله".
فإذا مضت عليك الأيام، وجاءك اليوم تلو اليوم فانظر إلى آخر الأيام إذا طُوِيَت رحلتُك وآذَنَتْ بالرحيل! فأين اللذات؟! وأين الملهيات؟! كأن لم يكن شيئاً، وبقيت التبعات والحسرات إذ أنت مرتهن بما عملت.
فالله أعلم بما عملت فيها من خير ترجوه، أو شرٍ تلقى الله – تبارك وتعالى – به إذا لقيتَه.
المؤمن تتقلب به الأيام، وتتغاير عليه الليالي، وتختلف عليه الساعات، وتتعاقب عليه السنون، رضاً وغضباً، وسروراً وحزناً، شبعاً وجوعاً، منبر وحبس، شكر وشق، إقبال وإدبار، منحة ومحنة، عطية وبلية، أمل وألم، وهو مع ذلك عبد الله، عاملاً بطاعة الله تبارك وتعالى مجانباً كل ما يغضبه سبحانه.
فخير ما يوصى به الإنسان: أن يعمِّر وقته بذكر الله – تبارك وتعالى – فلإنسان في هذه الدار ليس له إجازة، بل هو يتنقل من عمل لآخر، دعاء الاستيقاظ من النوم، صلاة الوتر، صلاة سنة الفجر وفرضها، أذكار الصباح، صلاة الضحى، ثم يخرج لطلب رزقه أو لمكان عمله في وقت الدوام، وتأتي عليه صلاة الظهر، ثم صلاة المغرب ثم العشاء، وأذكار المساء ثم النوم، صيام شهر رمضان، صيام ست من شوال، صيام الاثنين والخميس، صيام الأيام البيض، صيام عشر ذي الحجة، ويوم عرفه، صيام يوم عاشوراء، والحج والعمرة، مجانباً المحرمات فاعلاً للقربات، محسناً للوالدين والجيران، غاضاً بصره عن الآثام، حافظاً لسانه عن الغيبة والبهتان، كذا يستمر الإنسان في هذه الحياة ليس له إجازة فينام عن الصلاة، أو يفطر في رمضان، أو يسرح ويمرح في الحرام، حتى يأتيه اليوم الذي ينتقل فيه، ينتقل فيه ويكون مرتهنٌ بما عمل قال الله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(سورة غافر:17).، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(سورة المدثر:38).، فعليه أن يحافظ على أوقاته لا يضيعها فيما لا يستفيد منه في آخرته فيأتي يوم القيام يتحسر على أوقاته التي لم يذكر الله – تبارك وتعالى – فيها أوقاته التي كان غافلاًً فيها، لم يتزود فيها لآخرته كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما جلس قوم مجلسا فلم يذكروا الله فيه الا كان عليهم ترة وما من رجل مشى طريقا فلم يذكر الله عز وجل الا كان عليه ترة وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله الا كان عليه ترة))1، والإنسان مسئول عن إضاعة أوقاته لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما جلس قوم مجلسالم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)).2نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا من الذاكرين، وأن لا جعلنا من الغافلين، وأن يجعل هذه النعم التي أسبغها علينا عوناً لنا على طاعته ورضاه، وأن يوفقنا في هذه الحياء لسبيل محبته، ونسأله أن يغفر لنا ويرحمنا إنه على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
1 رواه أحمد في المسند برقم(9580) وقال شعيب الأرناؤوط : صحيح وهذا إسناد ضعيف لجهالة أبي إسحاق, تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون, مؤسسة الرسالة, ط2, سنة النشر: 1420هـ ، 1999م؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(79).
2 رواه الترمذي برقم(3380)قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح, تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون, دار إحياء التراث العربي – بيروت؛ وأحمد في المسند برقم (9842) وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير صالح مولى التوأمة, تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون, مؤسسة الرسالة, ط2, سنة النشر: 1420هـ ، 1999م؛ وصححه ابن حبان في صحيحه برقم(853)؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير برقم(10544)؛ وفي صحيح الجامع برقم ( 5607).