لا يتمنين أحدكم الموت

 

لا يتمنين أحدكم الموت

الحمد لله الذي أنزل الأحكام لإمضاء علمه القديم، وأجزل الإنعام لشاكر فضله العميم،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له البر الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالدين القويم، المنعوت بالخلق العظيم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أفضل الصلاة والتسليم.

أما بعد: فنورد حديثاً يبين كراهية تمني الموت وأن العبد يدعو الله سبحانه إذا حلت به المصائب والمحن.

نص الحديث:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال النبي  : (لايتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي).1

ترجمة صحابي الحديث:

أنس بن مالك بن النضر أبو حمزة الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله   وأحد المكثرين من الرواية عنه. كناه النبي   أبا حمزة ببقلة كان يجتنبها، ومازحه النبي   فقال له: (ياذا الأذنين).

خدم النبي   عشر سنين، ودعا له النبي فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه) قال أنس: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين، وأن أرضي؛ لتثمر في السنة مرتين، وكانت إقامته بعد النبي   بالمدينة، ثم شهد الفتوح، ثم قطن البصرة، ومات بها.

 قال علي ابن المديني: كان آخر الصحابة موتاً بالبصرة.2

المعنى العام للحديث:

فضيلة الصبر معروفة والثواب عليها عظيم وقد مدح الله الصابرين في آيات كثيرة من كتابه المبين وأثنى عليهم بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (156-157) سورةالبقرة.

وفي عدة الصابرين لابن القيم -رحمه الله- قال في الصبر: هو خلق فاضل من أخلاق النفس يُمتنع به من فعل ما لا يَحسُن، ولا يَجمُل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها، وسئل عنه الجنيد بن محمد فقال: تجرع المرارة من غير تعبس. وقال ذو النون: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغني مع حلول الفقر بساحات المعيشة.3

والحديث دليل على النهي عن تمني الموت للوقوع في بلاء، ومحنة، أو خشية ذلك من عدو،أو مرض، أو فاقة، أو نحوها من مشاق الدنيا؛ لما في ذلك من الجزع، وعدم الصبر على القضاء، وعدم الرضا وفي قوله: (لضر نزل به) ما يرشد إلى أنه إذا كان لغير ذلك من خوف، أو فتنة في الدين فإنه لا بأس به، وقد دل له حديث الدعاء (إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) أو كان تمنيا للشهادة كما وقع ذلك لعبد الله بن رواحة وغيره من السلف، وكما في قول مريم:{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} (23) سورة مريم. فإنها إنما تمنت ذلك لمثل هذا الأمر المخوف من كفر وشقاوة من شقي بسببها. وفي قوله: (فإن كان متمنياً) يعني إذا ضاق صدره وفقد صبره عدل إلى هذا الدعاء، وإلا فالأولى له أن لا يفعل ذلك.4

وليس المراد بهذا الأمر استحباب الدعاء به لهذا، بل تركه أفضل من الدعاء به فإنه رتب الأمر به على كون المتمني لا بد أن يقع منه صورة تمنٍّ مع نهيه أولاً عن ذلك، وكذا قال النووي في هذه الحالة: الأفضل الصبر والسكون للقضاء.

شرح الحديث:

قوله: ( لضُر ) بضم الضاد وفتحها: أي بسبب ضرر مالي، أو بدني، ووجه النهي أن تمني الموت من أجل الضر أنه يدل على الجزع في البلاء وعدم الرضاء بالقضاء.5

قوله: ( ولكن ليقل): هذا يدل على أن النهي عن تمني الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة؛ لأن في التمني المطلق نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم، وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء . قاله الحافظ في الفتح

قوله: ( ما كانت الحياة خيرا لي ): أي من الموت وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية، والأزمنة خالية عن الفتنة والمحنة.

قوله: ( وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ): أي من الحياة.6

قال الحافظ في الفتح: عبَّر في الحياة بقوله (ما كانت) لأنها حاصلة، فحُسن أن يأتي بالصيغة المقتضية للاتصاف بالحياة، ولما كانت الوفاة لم تقع بعد، حسُن أن يأتي بصيغة الشرط، والظاهر أن هذا التفصيل يشمل ما إذا كان الضر دينياً أو دنيوياً. انتهى.7

قال المنذري: قال بعضهم: قول النبي   عند موته: (اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى) تمن للموت، وقد تمنى الموت عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وذلك معارض لأحاديث النهي عن تمني الموت. وأجاب أن النبي   قال ذلك بعد أن علم أنه ميت في يومه ذلك، واستشهد بقوله لفاطمة: (لا كرب على أبيك بعد اليوم)، وقول عائشة سمعت النبي   يقول: (لا يقبض نبي حتى يخير)8، فلما سمعته يقول الرفيق الأعلى علمت أنه ذاهب، قال: وأما حديث عمر وعلي ففيهما بيان معنى نهيه رضي الله عنه عن تمني الموت، وأن المراد بذلك إذا نزل بالمؤمن مرض، أو ضيق في دنياه فلا يتمنى الموت عند ذلك، فإذا خشي أن يصاب في دينه فمباح له أن يدعو بالموت قبل مصابه بدينه، ولا يستعمل عمر هذا المعنى إلا أنه خشي عند كبر سنه وضعف قوته أن يعجز عن القيام بما افترض الله عليه من أمر الأمة، فأجاب الله دعاءه،

وأماته بأن قتل انسلاخ الشهر، وكذلك خشي علي رضي الله عنه من سآمته لرعيته وسآمتهم له، وقد سأل عمر بن عبد العزيز الوفاة لنفسه حرصاً على السلامة من التغيير رضي الله عنهم. انتهى كلام المنذري.

حكمة النهي عن تمني الموت:

وحكمة النهي عن تمني الموت ما جاء من حديث أم الفضل أن النبي   دخل على العباس، وهو يشتكي فتمنى الموت فقال: (يا عباس، يا عم رسول الله، لا تتمن الموت إن كنت محسناً تزداد إحساناً إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئاً فإن تؤخر تستعتب خير لك، لا تتمن الموت).9

مفاسد تمني الموت بسبب نازلة أو مصيبة:

قال العلامة بن سعدي: “في تمني الموت لذلك مفاسد منها:

1. أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر والقيام بوظيفته، ومعلوم أن تمني الموت ينافي ذلك.

2. أنه يضعف النفس، ويحدث الخور والكسل، ويوقع في اليأس، والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به، وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه .

3. أن تمني الموت جهل وحمق، فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت، فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله.10 نسأل الله الرحمة والسلامة.

من فوائد الحديث:

1. الضرر المراد في الحديث إنما هو الضر الدنيوي من مرض، أو فاقة، أو محنة من عدو، أو نحو ذلك من مشاق الدنيا.

2. الآجال مقدرة لا يزداد فيها، ولا ينقص منها، فما الذي يؤثر تمني الموت في ذلك؟فتمني الموت لضر دنيوي عبث لا فائدة فيه، لما فيه من مراغمة المقدور، وعدم الرضا به مع ما سبق من كون المؤمن لا يزيده عمره إلا خيراً.

3. قوله   (فإن كان لا بد متمنيا…)ليس المراد بهذا الأمر استحباب الدعاء به لهذا، بل تركه أفضل من الدعاء به، فأنه رتب الأمر به على كون المتمني لا بد أن يقع منه صورة تمن، مع نهيه أولاً عن ذلك.

4. الضر الديني: هو خوف الفتنة في الدين، فالظاهر أنه لا بأس معه بالدعاء بالموت،وتمنيه، ويدل لذلك قوله في حديث أبي هريرة: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه، وليس به الدين إلا البلاء).11

5. إن تمني الموت والدعاء به انقطاع الأعمال، ففي الحياة زيادة الأجور بزيادة الأعمال،ولو لم يكن إلا استمرار الإيمان فأي عمل أعظم منه، وقد قال النبي   لما سُئل عن أفضل الأعمال قال: (إيمان بالله) فبدأ به، فإن قيل: قد يسلب الإيمان بالله، والعياذ بالله. قلنا: إن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوع ذلك طال عمره أو قصر، وإن سبقت له السعادة فزيادة عمره زيادة في حسناته، ورفع في درجاته كثرت أو قلت.

6. وفيه أنه إن خاف ولم يصبر على حاله في بلواه بالمرض ونحوه فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً. . . إلخ، والأفضل الصبر والسكون للقضاء.


1 رواه البخاري برقم (5347) ومسلم برقم (2680).

2 الإصابة في تمييز الصحابة (126-127) بتصرف.

3 عدة الصابرين (1/8).

4 سبل السلام شرح بلوغ المرام (3/ 56).

5 تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: دار الكتب العلمية – بيروت (3/29).

6 عون المعبود شرح سنن أبي داود: دار الكتب العلمية – بيروت: ط2: 1415هـ(8/259).

7 فتح الباري لابن حجر (10/128).

8 مسند إسحاق بن راهويه (2/563) وأصله في البخاري ومسلم من كلام عائشة -رضي الله عنها-.

9 رواه أحمد في المسند برقم (26916) قال الألباني: (صحيح) انظر صحيح الترغيب والترهيب برقم (3368).

10 بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار: ابن سعدي: ط4: (1/246)

11 رواه البخاري برقم (6698-6704) ومسلم برقم (157)