الأمن من مكر الله
الحمد لله حمداً حمداً، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعـد:
لقد حذرنا ربنا-عز وجل- من هذه الصفة الذميمة وهي: الأمن من مكره، وحكى الله-تعالى- ذلك عن أهل الخسران، فدل ذلك أنها ليست من صفات أهل الإيمان، فوجب الحذر من ذلك والخوف من مكر الله- تعالى- وغضبه وبطشه وعقابه .
والأمن من مكر الله -تعالى- طريق يؤدي إلى جهنم وبئس المصير، وإذا أمن الإنسان من مكر الله -تعالى- ولم يراقبه في أقواله وأفعاله، فيخشى عليه من الخسارة العاجلة والآجلة كما قال -تعالى-: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (99) سورةالأعراف.
وسوف نقف مع هذا الموضوع في النقاط الآتية:
أولاً: معنى الأمن من مكر الله:
قال ابن حجر-رحمه الله-: الأمن من مكر الله يتحقق بالاسترسال في المعاصي مع الاتكال على الرحمة.1
قال الراغب-رحمه الله- : مكر الله -تعالى-: صفة حقيقة على ما يليق بجلال الله وكماله، ومن لوازمها إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا، ولذلك قال أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه ُمِكَر به فهو مخدوع في عقله.2
ثانياً: من مضار الأمن من مكر الله:
1- الأمن يجعل المؤمن غافلاً عن طاعة الله ورضوانه.
2- الأمن من مكر الله سبب لدخول النار.
3- لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون.
4- أنه كبيرة من كبائر الذنوب.
ثالثاً: حكم الأمن من مكر الله:
الأمن من مكر الله -تعالى- كبيرة من الكبائر، قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-(عَدّ ذلك كبيرة هو ما أطبقوا عليه؛ لما علمتَ من الوعيد الشديد الذي فيه، بل جاء تسميته أكبر الكبائر. روى ابن أبي حاتم في تفسيره والبزار عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أن رسول الله ﷺ سئل ما الكبائر؟ فقال: (الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وهذا أكبر الكبائر). قيل:والأشبه أن يكون موقوفاً، وبكونه أكبر الكبائر صرح ابن مسعود كما رواه عبد الرزاق والطبراني.3
وممن عده من الكبائر الإمام الذهبي -رحمه الله- في كتابه (الكبائر) الكبيرة الثامنة والستون4. وكذلك ابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
رابعاً: النصوص الواردة في ذم الأمن من مكر الله:
قال -تعالى-: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ* أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ *أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}5.
قال ابن جرير -رحمه الله-: (يقول تعالى ذكره: أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذبون الله ورسوله ويجحدون آياته استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش كما استدرج الذين قص عليهم قصصهم من الأمم قبلهم، فإن مكر الله لا يأمنه -يقول: لا يأمن ذلك أن يكون استدراجاً، مع مقامهم على كفرهم وإصرارهم على معصيتهم- (إلا القوم الخاسرون) وهم الهالكون)أ.هـ6
وقال -تعالى-: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ* أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ}7.
قال ابن القيم -رحمه الله-في (الفوائد ص160):
وأما المكر الذي وصف به نفسه فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء؛ لأنه عدل ومجازاة.
وأما خوف أوليائه من مكره فحقّ، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته.
وقوله: (أفأمنوا مكر الله) إنما هو في حق الفجار والكفار، ومعنى الآية: فلا يعصي الله ويأمن من مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره به إلا القوم الخاسرون.
والذي يخافه العارفون بالله من مكره: أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال فيحصل منهم نوع اغترار، فيأنسوا بالذنوب، فيجيئهم العذاب على غرة وفترة.).
خامساً: الآثار الواردة في ذم الأمن من مكر الله:
1- قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا !). 8
2- وقال علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه-: (إنما العالم الذي لا يُقنِّطُ الناس من رحمة الله -تعالى- ولا يُؤمِّنهم من مكر الله)9.
3- وقال الحسن البصري -رحمه الله- عن النفاق: (ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق).10
4- وقال الحسن البصري -أيضاً-: (المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وَجِلٌ خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن).11
5- وعن إسماعيل بن رافع -رحمه الله- قال: مِن الأمن مِن مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة.12
اللهم إنا نعوذ بك من الأمن من مكرك، ونسألك نفساً طيبة تعرف المعروف وتفعله، وتعرف المنكر وتجتنبه، اللهم إنا نعوذ بك من قول بلا عمل، ونعوذ بك من سوء الخاتمة، ومن مردٍّ مخزٍ أو فاضح، اللهم إنا نسألك بصيرة في الدين، وحسن ظن مع حسن عمل، ونعوذ بك من أمنٍ مع سوء عمل، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زياة لنا في كل خير،واجعل الموت راحة لنا من كل شر.. إنك أنت العزيز الحكيم.
وآخر دعــــــوانا أن الحمــد لله رب العالمين.
1 – انظر الزواجر لابن حجر (1/87).
2 – المفردات للراغب (ص471).
3 – الزواجر لابن حجر (1/89) .
4 – الكبائر للذهبي (ص199) تحقيق مشهور حسن محمود .
5 – الأعراف 97 – 99.
6 – جامع البيان للطبري ( 6/141) .
7 – النحل ( 45 – 47 ).
8 – البخاري – ترقيم فتح الباري 11 ( 6308).
9 – إحياء علوم الدين ( 4/153).
10 – تفسير ابن كثير ( 2/234).
11 – فتح الباري (1/135).
12 – انظر موسوعة نظرة النعيم 9/3999) بتصرف .