الأندلس في سماء التاريخ
الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده المجتبى، ونبيه المصطفى، ورسوله إلى الورى، أما بعد:
فما أجمل الحديث عن الأرض الخضراء، والروضة الفيحاء، والحديقة الغناء، ذات الجمال الظاهر في طبيعتها، والحسن الباهر في أشجارها وأزهارها، والتي وصفها الشعراء، وترنم بها الأدباء، وكتب فيها العلماء، وترجم لها الحكماء، ووصل تاريخها إلى مريخ السماء، إذا قرئت عن حسنها ازددت حسناً، وإذا كتبت عن جمالها ازددت جمالاً وبهاءً، ورونقا وصفاءً، فيا لله ما أجملها، وما أروعها، وما أحسنها!
أرض الأصالة والعراقة، والصناعة والحذاقة، والفصاحة واللباقة، والسباحة والسياحة، فيها القصور والدور، والسرور والحبور، والدر المنثور، والحدائق الغناء، والأرض الفيحاء.
فيها: برزت الحضارات، ورفعت المنارات، وعلت الشعارات، وترددت الهتافات، وشيدت الجامعات، وانطلقت الفتوحات، فيا ترى ما هي هذه الأرض؟ وما هي هذه البلدة؟ وما هي هذه القلعة؟
إنها أرض الأندلس، الفردوس المفقود:
يا أرض أندلس الخضراء حيينا لعل روحاً من الحمراء تحييـنا
عادت إلى أهلها تشتاق فتيتها فأسمعت من غناء الحب تلحيناً
الأندلس قبل الفتح الإسلامي:
قال ابن الأثير: أول من سكنها بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس – بشين معجمة – ثم عرّب بعد ذلك بسين مهملة، والنصارى تسميها إشبانية باسم رجل صلب فيها يقال له إشبانش، وقيل: سميت بأندلس بن يافث بن نوح، وهو أول من عمرها، وقيل: أول من سكنها بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس، فعمروها وتداولوا ملكها دهراً طويلاً، وكانوا مجوساً، ثم حبس الله عنهم المطر، وتوالى عليهم القحط، فهلك أكثرهم، وفرَّ منها من أطاق الفرار، فخلت مئة سنة، ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة، فدخل إليها قوم منهم، أجلاهم ملك إفريقية لقحط توالى على بلاده حتى كاد يفنى أهلها، فحملهم في السفن مع أمير من عنده، فأرسوا بجزيرة قادس، فرأوا الأندلس وقد أخصبت بلادها، وجرت أنهارها، فسكنوها وعمروها، ونصبوا لهم ملوكاً ضبطوا أمرهم، وكانت دار مملكتهم طائفة الخراب من أرض إشبيلية، بنوها وسكنوها، وأقاموا مدة تزيد على مئة وخمسين سنة، ملك منهم فيها أحد عشر ملكاً، ثم أرسل الله عليهم عجم رومة، وملكهم إشبان بن طيطش فغزاهم ومزقهم، وقتل منهم وحاصرهم بطالقة، وقد تحصنوا بها، فابتني عليها إشبانية – وهي إشبيلية -، واتخذها دار مملكته، وكثرت جموعه، وعتا وتجبر، ثم تداولها عدة ملوك ذكرهم ابن الأثير: منهم من عبد الأوثان، ومنهم من دان بدين النصرانية، إلى أن انتهى الملك إلى غيطشة، وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة، ثم توفي وخلف ولدين، فلم يرض بهما أهل الأندلس، ورضوا برجل يقال له رذريق، وكان شجاعاً وليس من بيت الملك.
بداية فتح الأندلس:
وكان من عادة ملوك الأندلس أن يبعثوا بأولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة، فيكونون في خدمة الملك لا يخدمه غيرهم، ويتأدبون بذلك، فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضاً، وتولى تجهيزهم، فلما ولي رذريق، أرسل إليه يليان – وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما – ابنته، فاستحسنها رذريق فافتضها، فكتبت إلى أبيها بذلك، فأغضبه فكتب إلى موسى بن نصير عامل إفريقية بالسمع والطاعة، واستدعاه فسار إليه، فأدخله يليان مدائنه، وأخذ عليه العهود له ولأصحابه بما يرضى به، ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها وذلك في آخر سنة تسعين، فكتب موسى إلى الوليد بن عبد الملك بذلك، واستأذنه في غزوها، فأذن له، فبعث موسى مولى من مواليه، يقال له "طريف" في أربعمائة رجل، ومعهم مائة فارس، فساروا في أربع سفن، فخرجوا في جزيرة بالأندلس فسميت جزيرة طريف، ثم أغار على الجزيرة الخضراء فأصاب غنائم كثيرة، ورجع سالماً في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين، فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الغزو، ثم دعا موسى بن نصير مولاه طارق بن زياد، وكان على مقدمات جيوشه، فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم البربر والموالي، وأقلهم العرب، فساروا في البحر، وقصدوا جبلاً منيفاً في البحر وهو متصل بالبر، فنزله فسمّى الجبل جبل طارق، وكان حلول طارق به في شهر رجب سنة اثنتين وتسعين.
ولما ركب طارق البحر غلبته عينه، فرأى النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعه المهاجرون والأنصار وقد تقلدوا السيوف، وتنكبوا القسي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – له: يا طارق تقدم لشأنك، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، ونظر طارق فرأى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه، فاستيقظ من نومه، وبشر أصحابه، وقويت نفسه، وأيقن بالظفر، فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء، وفتح الجزيرة الخضراء، وفارق الحصن الذي في الجبل، فبلغ رذريق خبره فأعظم ذلك، وكان غائباً في غزاة فرجع منها، وقد دخل طارق بلاده، فجمع له جمعاً يقال: بلغ مئة ألف، فكتب طارق إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح، فأمده بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثني عشر ألفاً، ومعهم يليان يدلّهم على عورة البلاد، ويتجسس لهم الأخبار، وأتاهم رذريق في جنده، والتقى الجمعان، وتواجه الصفان، وجاء النصر: فجمع طارق بن زياد جنده، وخطب فيهم خطبةً شهيرة قال فيها: "أيها الناس: أين المفر، البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدت لكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً؛ ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص فيها متاع النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، والمقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عزباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً؛ ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله – تعالى – ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين.
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله – إن شاء الله تعالى -، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخْذلون"
فالتقى الجمعان، وتقابل الصفان، ودارت رحى الحرب، وبدأت المبارزة، وانطلقت النبال، وصوبت الرماح، ومكان اللقاء على نهر بكّة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين، واتصلت الحرب بينهم ثمانية أيام، وكان على ميمنة رذريق وميسرته ولدا الملك الذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك، فاتفقوا على الهزيمة بغضاً لرذريق، وقالوا: إنّ المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم، وبقي الملك لنا، فانهزموا وهزم الله رذريق ومن معه، وغرق في النهر.
وسار طارق إلى مدينة إستجة في اتباعهم، فانهزم أهل الأندلس، ونزل طارق على "عين" بينها وبين مدينة إستجة أربعة أميال فسميت عين طارق، ولما سمع القوط بهاتين الهزيمتين قذف الله في قلوبهم الرعب، وهربوا إلى طليطلة، وأخلوا مدائن من الأندلس، فقال له يليان: قد فرغت من الأندلس، ففرّق جيوشك، وسر أنت إلى طليطلة، ففرق جيوشه من مدينة إستجة: فبعث جيشاً إلى قرطبة، وجيشاً إلى غرناطة، وجيشاً إلى مالقة، وجيشاً إلى تدمير، وسار هو ومعظم الجيش إلى طليطلة، فلما بلغها وجدها خالية، وقد لحق من بها بمدينة خلف الجبل يقال لها ماية، وفتح سائر الجيوش الذين بعثهم ما قصدوه من البلاد، ولما رأى طارق طليطلة خالية؛ ضم إليها اليهود، وترك معهم رجالاً من أصحابه، وسار هو إلى وادي الحجارة، وقطع الجبل من فج فيه فسمّى بفج طارق، وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة، وفيها مائدة سليمان بن داوود – عليهما السلام -، وهي من زبرجدة خضراء، حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك، وكان لها ثلاثمائة وستون رجلاً، ثم مضى إلى مدينة ماية فغنم منها، ورجع إلى طليطلة في سنة ثلاث وتسعين، وقيل: إنه اقتحم أرض جلّيقية فاخترقها حتى انتهى إلى مدينة استرقة، وانصرف إلى طليطلة، ووافته جيوشه التي وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدائن التي سيرهم إليها.
وبعد هذا تألقت الأندلس في سماء التاريخ، فاشتهر فتحها، وذاع صيتها، وبرزت حضارتها، وحكمت العالم بحكم الإسلام، وعدل الإسلام، وسماحة الاسلام، وحضارة الإسلام، حتى صارت حاضرة العالم، وقلعة العلم والمعرفة، ومنطلق الفتوحات.
فاللهم أعدها إلينا كما فتحتها لآبائنا، وارزقنا الشهادة في سبيلك على أرضها، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.