العلم والعلماء
الحمد لله رب العالمين، نحمده تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
لما كان الإمام يحتاج إلى العلم الشرعي ليكون قدوة للناس وليقوم على توضيح الأحكام الشرعية للمأمومين، كان لزاما الكلام على فضل العلم والعلماء ولهذا فإن العلم من المقامات السامية في أوساط المسلمين، وهو من أشرفها، وأعلاها منزلة في قلب كل مسلم، وله فضل عظيم، جاء هذا في النصوص القرءانية، والنبوية، والتي من خلالها يتبين فضل العلم فمن تلك النصوص التي تبين فضل العلم:
1. العلم من الطرق الموصلة إلى الجنة فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ : ((من سلك طريقا فيه يتلمس علما سهل الله له طريقا إلى الجنة)).1
2. العلم هو الذي يزكي النفوس، ويهذبها، وهو نور يبصر به العبد حقائق الأمور، وليس البصر بصر العين، ولكن بصر القلوب، قال تعالى : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.2
3. العلم يرقق القلوب، ويبعث فيها الخشية لله -تبارك وتعالى- {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}3
4. العلم أفضل من الجهاد، قال بن القيم: “فالجهاد نوعين جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير، والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة اعدائه قال تعالى {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}4، فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين وهو جهاد المنافقين أيضا فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}5، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن، والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله ولهذا قال معاذ -رضي الله عنه-: “عليكم بطلب العلم فإن تعلمه لله خشية ومدارسته عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد”، ولهذا قرن سبحانه بين الكتاب المنزل والحديد الناصر كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}6 فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين”.7
5. أن طلب العلم، والتفقه فيه يوصل العبد إلى الخيرية التي ذكرها الرسول ﷺ في قوله: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين))8.
هذه الفضائل والمناقب التي جعلها الله –تعالى- للعلم توضح مدى أهميته وأثرِه في تحقيق عبودية الله سبحانه، وإصلاح أحوال الخلق، والعلم الذي وردت فيه هذه المزايا إنما هو علم الوحيين الكتاب والسنة، وما أشد حاجة أمتنا اليوم، بل هي في أشد الحاجةً إلى العلم النافع الصحيح، وإلى العلماء الذين يذبون عن أركان الشريعة، والذين هم أمناء الله من خلقه، المجتهدون في حفظ ملته الذين هم بالشرع مستمسكون، ولآثار الصحابة والتابعين مقتفون لا يعرجون على الأهواء ولا يلتفتون إلى الآراء، فهم {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}9، ولهذا جاءت النصوص تبين فضل هؤلاء العلماء، من هذه النصوص:
1. قوله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}10“شهد تعالى وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين {أَنّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ} أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه، وهو الغني عما سواه، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، فقال {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ}”.11
2. العلماء هم من انطبقت عليهم الخيرية التي حددها النبي ﷺ في قوله من حديث معاوية – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين))، ويؤخذ من ظاهر الحديث أن من لم يرد الله به خيراً لا يفقه في الدين بمفهوم المخالفة، وفيه فضل العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه.
3. العلماء هم أهل الخشية الحقيقيون كما في قوله – تعالى -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ، والمعنى: ” إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته؛ العلماء، بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته؛ فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه”.12
4. العلماء هم صمام أمان للأمة، فإذا غاب العلماء عن الأمة ضلت في دينها فعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).13
5. العلماء هم الذين استحقوا أن يرفعهم الله -عز وجل- درجات قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}14، والمعنى “يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين، الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به”15.
6. والعلماء هم ورثة الأنبياء فيما جاءوا به، فهم قد ورثوا منهم العلم لما ورد عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)).16
7. والعلماء هم أرقى الناس منزلة في الدنيا قبل الآخرة، وأحق الناس أن تتطلع لما عندهم الأعناق، بل الغبطة تكون على هؤلاء، فإنهم هم العدول الحقيقيون فعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله ﷺ : ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)).17
ولله در القائل حين قال:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهـم | على الهدى لمن استهدى أدلاّء |
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه | والجاهـلون لأهل العلم أعداء |
ففز بعلم تعـش حيـاً به أبداً | الناس موتى وأهل العلم أحياء”18 |
إن ما ذكر في فضيلة العلماء إنما هو في حق العلماء الربانيين المتقين، الذين قصدوا بعلمهم وجه الله الكريم، فكانوا أحق الناس بالمحبة والتعظيم والتوقير بعد الله، وبعد رسوله ﷺ ؛ لأن العلم ميراث الأنبياء، والعلماء ورثته، ومحبة العالم تحمل على تعلّم علمه واتّباعه، والعمل بذلك دين يدان به، ولهذا فإن احترام العلماء، وتوقيرهم، واجب على كل مسلم.
نسأل الله -عز وجل- أن يفقهنا في الدين، وأن يرفع راية الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
1المستدرك (300)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/17)
2 سورة الحـج (46).
3 سورة فاطر (28)
4 سورة الفرقان (52)
5 سورة التوبة (73)
6 سورة الحديد (25)
7 مفتاح دار السعادة (1/70)
8 صحيح البخاري (71)، ومسلم (2436)
9 سورة الأحزاب (39)
10 سورة آل عمران (18)
11 تفسير ابن كثير (1/435)
12 في ظلال القرآن (6/150).
13 البخاري (98)، ومسلم (4828).
14 سورة المجادلة (11).
15 تفسير الطبري (23/246).
16 الترمذي (2606)، وصحيح الترغيب والترهيب (1/17).
17 السنن الكبرى للبيهقي (10/209)، ومشكاة المصابيح (1/53).
18 زهر الأكم في الأمثال و الحكم (1/109).