أعذار ترك صلاة الجماعة

أعذار ترك صلاة الجماعة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله، وصحبه؛ أجمعين، أما بعد:

فإن شهود جماعة المسلمين مع المصلين في المسجد؛ يترتب عليه من الفضائل العظيمة، والمنازل الجسيمة؛ ما تبوئ المرء أشرف مقام، وتسمو بالعبد على الأنام، فقد تضافرت النصوص على بيان مكانتها، وتوالت البحوث للوقوف على أسرار تشريعاتها، ويكفي في فضلها ما جاء عن أبي هريرة  أن النبي  قال: من غدا إلى المسجد وراح أعدَ الله له نُزُلَهُ من الجنة كلما غدا أو راح1

ولكن ثمة أحوال تسقط شهودها لأهل الحضر والمقيمين، ينبغي أن نبينها ليُعلم يسر هذه الشريعة السمحة في تكاليفها على العباد، وليدرك المرء أنه لا حرج عليه أن تخلف عنها في هذه الأحوال وهي متفاوتة بين الوجوب، والاستحباب لمصلحة أو لأخرى، نثرها أهل العلم بين طيات مؤلفاتهم، وملح  مدوناتهم، نجمعها ليكون المرء على بصيرة بدينه، وهدى وعلم من ربه.

وكل ما أمكن تصوره من الأعذار المرخصة تصدق في الجمعة والجماعة على حد سواء.

أولاً ما المراد بالعذر:

العذر لغة: هو الحجة التي يعتذر بها، والجمع أعذار، يقال: لي في هذا الأمر عذر أي: خروج من الذنب، وفي المصباح: عذرته عذراً من باب ضرب: رفعت عنه اللوم، فهو معذور أي: غير ملوم.2

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.

ومن الألفاظ ذات الصلة:

أ – الرخصة:

والرخصة في اللغة هي: اسم من – رخص – تقول: رخص له الأمر أي: أذن له فيه بعد النهي عنه، وتأتي بمعنى: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه3، فهي إذن بمعنى: التيسير والتخفيف.

وفي الاصطلاح: هي ما شرع من الأحكام لعذر، مع قيام السبب المحرم،4 ولولا العذر لثبتت الحرمة.

ب – العفو:

العفو في اللغة: هو محو الذنوب، وهو – أيضا -: التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه، وهو أيضا: قبول الدية في العمد، وفي الاصطلاح: هو الصفح، وإسقاط اللوم والذنب، وفي الجنايات هو: إسقاط ولي المقتول القود عن القاتل5.

تنبيــه: هذه الأعذار ترفع عن المكلف الحرج، وتدفع عنه الضيق في عباداته وتكاليفه في أحواله كافة إلا أن منها: ما هو متفق عليه كالمرض مثلاً، ومنها: ما هو مختلف فيه كالبرد، والمطر، والخوف.

والأعذار المسقطة للجماعة تتوزع على كلا الأمرين.

فمن جملة تلك الأعذار:

* المـرض:

والمراد به بصفة عامة المرض الذي يشق معه الإتيان إلى المسجد، فإذا شق معه الإتيان ماشياً لا راكباً فعند المالكية، والشافعية، ومحمد من الحنفية؛ بأنه يلزمه الإتيان، وقيده المالكية بما إذا كانت الأجرة غير مجحفة؛ وإلا لم تجب عليه.

وذهب جمهور الحنفية إلى أنه لا يجب عليه الحضور إلى الجماعة والجمعة في هذه الحال، وقيل: لا يجب عند الحنفية اتفاقاً كالمقعد6.

وفرق الحنابلة بين الجمعة والجماعة فقالوا: إن تبرع أحد بأن يركبه لزمته الجمعة، لعدم تكررها دون الجماعة.

قال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً بين أهل العلم أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض، واستدلوا بما ورد أن النبي  قال: من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر، قالوا: وما العذر؟ قال : خوف، أو مرض؛ لم تقبل منه الصلاة التي صلى7، وقد كان بلال  يؤذن بالصلاة، ثم يأتي النبي  وهو مريض فيقول: مروا أبا بكر فليصل بالناس8.

والمرضى إذا فاتتهم الجمعة يصلونها ظهراً فرادى، وتكره لهم الجماعة9

* الجـذام والـبرص:

خص بعض الفقهاء بعض الأمراض بالذكر في التخلف عن الجماعة كالجذام، والبرص: فقال المالكية: يجوز للجذم ترك الجماعة إن كانت رائحتهم تضر بالمصلين، وكانوا لا يجدون موضعاً يتميزون فيه، أما لو وجدوا موضعاً يصح فيه الجمعة، ويتميزون فيه؛ بحيث لا يلحق ضررهم بالناس فإنها تجب عليهم اتفاقاً، لإمكان الجمع بين حق الله تعالى، وحق الناس، وما قيل في الجذام يقال في البرص10.

وقال الشافعية: ويندب للإمام منع صاحب البرص والجذام من المساجد، ومخالطة الناس، والجمعة والجماعات11

وذهب جمهور الفقهاء إلى أن: الممرض يلحق بالمريض في التخلف عن الجمعة والجماعات، وقالوا: لأن حفظ الآدمي أفضل من حفظ الجماعة.

* المطر والبرد الشديدان، والريح العاتية: فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي : “أنه كان يأمر المنادي ينادي فينادي صلوا في رحالكم في الليلة الباردة، وفي الليلة المطيرة في السفر”12 وعن جابر  قال: “خرجنا مع رسول الله  في سفر فمطرنا فقال: ليصل من شاء منكم في رحله13

وأخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: “إذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، قال: فكأن الناس استنكروا ذلك فقال: أتعجبون من ذلك فقد فعل ذلك من هو خير مني (يعني النبي ) إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض”14

وَنَقَلَ ابن بَطَّالٍ في هذه الثلاث: الْإِجْمَاعَ.

لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرِّيحَ عُذْرٌ في اللَّيْلِ فَقَطْ، وَظَاهِرُ الحديث اخْتِصَاصُ الثَّلاثَةِ بِاللَّيْلِ، وفي السُّنَنِ من طَرِيقِ أبي إِسْحَاقَ عن  نَافِعٍ في هذا الحديث في اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَالْغَدَاةِ الْقِرَّةِ15.

قال الْحَافِظُ: ولم أَرَ في شَيْءٍ من الْأَحَادِيثِ التَّرْخِيصَ لِعُذْرِ الرِّيحِ في النَّهَارِ صَرِيحًا، وفي قَوْلُهُ: “لِيُصَلِّ من شَاءَ مِنْكُمْ في رَحْلِهِ” التَّصْرِيحُ  بِأَنَّ الصَّلاةَ في الرِّحَالِ لِعُذْرِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ رُخْصَةٌ وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ.

* الخوف:

وهو عذر في ترك الجماعة لما روى ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي  قال: من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر، قالوا: وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض؛ لم تقبل منه الصلاة التي صلى قال صاحب المغني: “الخوف في ثلاثة أنواع: خوف على النفس، وخوف على المال، وخوف على الأهل، فالأول: أن يخاف على نفسه سلطاناً يأخذه، أو عدواً، أو لصاً، أو سبعاً، أو دابة، أو سيلاً أو نحو ذلك مما يؤذيه في نفسه، وفي معنى ذلك أن يخاف غريماً له يلازمه ولا شيء معه يوفيه، فإن حبسه بدين هو معسر به ظلم له، ويعذر أيضاً من يريد سفراً ويخاف فوت الرفقة.

النوع الثاني: الخوف على ماله بخروجه مما ذكرناه من السلطان، واللصوص وأشباههما، أو يخاف أن يسرق منزله، أو يحرق، أو شيء منه، أو يكون له خبز في تنور، أو طبيخ على نار ويخاف حريقه باشتغاله عنه، أو يكون له غريم إن ترك ملازمته ذهب بماله، أو يكون له بضاعة، أو وديعة عند رجل؛ وإن لم يدركه ذهب، فهذا وأشباهه عذر في التلطف عن الجمعة والجماعات.

النوع الثالث: الخوف على ولده وأهله أن يضيعوا، أو يكون ولده ضائعاً فيرجو وجوده في تلك الحال، أو يكون له قريب يخاف إن تشاغل بهما “الجمعة والجماعات” مات فلم يشهده.

قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر  استصرخ على سعيد بن زيد بعد ارتفاع الضحى، فأتاه بالعقيق؛ وترك الجمعة، وهذا مذهب عطاء والحسن، والأوزاعي والشافعي، ويعذر في تركهما من يخاف عليه النعاس حتى يفوتاه؛ فيصلي وحده، وينصرف16 * عوارض الانشغال: بأن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه، أو يدافع الأخبثين؛ لما روت عائشة – رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله  يقول: … لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثين17 وجملة ذلك أنه إذا حضر العشاء في وقت الصلاة فالمستحب أن يبدأ بالعشاء قبل الصلاة؛ ليكون أفرغ لقلبه، وأحضر لباله، ولا يستحب أن يعجل عن عشائه أو غدائه18

فإن أنساً روى عن النبي  قال: إذا قرب العشاء، وحضرت الصلاة؛ فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم19 قال ابن عباس: “لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء”.

وكذلك صلاة الحاقن: قال الشافعي، وأبو حنيفة، والعنبري: يكره أن يصلي وهو حاقن، وصلاته جائزة مع ذلك، وإن لم يترك شيئاً من فروضها، وقال مالك: أحب أن يعيد إذا شغله ذلك، قال الطحاوي: لا يختلفون أنه لو شغل قلبه بشيء من الدنيا أنه لا يستحب له الإعادة كذلك إذا شغله البول فهذان من الأعذار التي يعذر بها ترك الجماعة والجمعة.

* فاقد الثياب (العاري):

عبر به دون أن يقول المستور لعله إشارة إلى أن مجرد الستر لا يستدعي وجوب الجماعة عليهم؛ لجواز أن يكون مستورا ًبنحو طين، وهو لا يستدعي وجوب الجماعة؛ بل مثل ذلك عذر في سقوط الجماعة20

ومع هذا كله لو أنه انقطع عن الجماعة لعذر، وكانت نيته حضورها؛ فأجره جاري، وثوابه حاصل، يكتب له فضيلتها وهو قاعد في بيته، وآمن بين أولاده وأهله، أو جالس في دكانه، ومقر عمله؛ لحديث أبي بردة قال: سمعت أبا موسى  مراراً يقول: قال رسول الله : إذا مرض العبد، أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً21، فيا لها من شريعة سماوية ربانية، تدر أرباحك، وتحمل أعذارك، وتواسيك أتراحك دون مشقة تجهدك، أو تكلفك ما لا تطيقه فقد قال سبحانه: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا22، ومع هذا قال: وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ23 قال المفسرون: “المعنى لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً”24

فهؤلاء هم من تسقط عنهم الجمعة والجماعة مع المسلمين في المسجد، نسأل أن يجعلنا ممن يعمرون بيوته بذكره، وشكره، والثناء عليه.


1 رواه البخاري برقم (622).

2 لسان العرب والمصباح المنير.

3 لسان العرب.

4 الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1 /101). 5 أحكام القرآن للجصاص (1 /175) وما بعدها ، والقواعد للبركتي.

6 حاشية ابن عابدين (1 /547) ، وحاشية الدسوقي (1 /389) .

7 رواه أبو داود برقم (464).

8 رواه البخاري برقم (624) ومسلم (633).

9 الفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية (1 /177).

10 حاشية الدسوقي (1 /389).

11 القليوبي (1 /228).

12 رواه النسائي برقم (896).

13 رواه مسلم برقم (1127).

14 رواه البخاري برقم (850) ومسلم (1128).

15 رواه أبو داود برقم (898).

16 المغني (1 /364).

17 رواه مسلم برقم (869).

18  المهذب (1 /94).

19 رواه مسلم برقم (867).

20  حاشية البجيرمي (1 /289).

21  رواه البخاري برقم (2774).

22 سورة البقرة (286).

23 سورة محمد (35).

24 زاد المسير (7 /414).