حلم رسول الله عليه الصلاة والسلام

حلم رسول الله عليه الصلاة والسلام

 

الحمد لله اللطيف الخبير، العزيز القدير، الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة والقول المنير، والصلاة والسلام على من وصفه ربه بأتم وصف وأكمله، وأجل خلق وأفضله، فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً،، أما بعد:

فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ويخرج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- في قمة الخلق والآداب. وكان من أبرز صفاته وأجل أخلاقه: الحلم والتأني، الذي كان سمة بارزة فيه عليه الصلاة والسلام. ولسوف نورد من الشواهد والوقائع ما يثبت ذلك، سائلين الله تعالى أن ينفع بها الجميع، وأن تكون لنا أسوة حسنة نتبع فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

عن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: إن الله لما أراد هدى زيد بن سعنة، قال زيد بن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد -صلى الله عليه وسلم-، حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أَخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلماً، فكنت ألطف له لأن أخالطه، فأعرف حلمه من جهله. قال زيد بن سعنة: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، إن بصرى قرية بني فلان قد أسلموا، ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً، وقد أصابتهم سنة وشدة وقحوط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تعينهم به فعلت، فنظر إلى رجل إلى جانبه أراه علياً -رضي الله تعالى عنه-، فقال: يا رسول الله، ما بقي منه شيء، قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه، فقلت: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: (لا يا يهودي، ولكني أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل كذا وكذا، ولا تسمي حائط بني فلان)، قلت: بلى، فبايعني فأطلقت همياني، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاها الرجل، فقال: اغد عليهم فأعنهم بها، فقال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاث، أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت له: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، ونظرت إلى عمر، وإذا عيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، فقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع، وتصنع به ما أرى! فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: (يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر وأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما روعته)، قال زيد: فذهب بي عمر -رضي الله تعالى عنه- فأعطاني حقي، وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ فقال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أزيدك مكان ما روعتك، قلت: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا، من أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر، قلت: الحبر، قال: فما دعاك أن فعلت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعلت وقلت له ما قلت؟ قلت: يا عمر لم تكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده الجهل عليه إلا حلماً، فقد أخبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، وأشهدك أن شطر مالي -وإني أكثرها مالاً- صدقة على أمة محمد. فقال عمر -رضي الله تعالى عنه-: أو على بعضهم، فإنك لا تسعهم. قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة، ثم توفي زيد في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر، رحم الله زيداً.1

فانظر إلى خلق الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- حيث لم يغضب لنفسه عندما نهره ذلك اليهودي وشدد عليه في المسألة واتهمه بما ليس فيه.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء.2

قال ابن حجر: "وفي هذا الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه فأغلظ فهمَّ به أصحابه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً) ثم قال: (أعطوه سناً مثل سنه) قالوا: يا رسول الله إلا أمثل من سنه! فقال: (أعطوه فإن من خيركم أحسنكم قضاء).3

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كأني أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).4

قال النووي: "فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون. وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين، وقد جرى لنبينا -صلى الله عليه وسلم- مثل هذا يوم أحد".

 

وعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثته أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: (لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً).5

قال ابن حجر: "وفي هذا الحديث بيان شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على قومه ومزيد صبره وحلمه وهو موافق لقوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم) وقوله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)".

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليك! ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مهلاً يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله) فقلت: يا رسول الله أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فقد قلت: وعليكم).6

قال النووي: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله) هذا من عظيم خلقه -صلى الله عليه وسلم- وكمال حلمه، وفيه حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة إلى المخاشنة".

وعن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه نعيم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب قال للرسولين: (فما تقولان أنتما؟) قالا: نقول كما قال. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما).7

ففي هذا الحديث بيان حلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وإمساك نفسه عن قتل المرتدين لكونهما رسولين، وفي هذا دليل على وقوف النبي -صلى الله عليه وسلم- عند حدود الله رغم ما قاله هذين الرجلين من الكفر والاعتراف بنبوة الكذاب.

ومما يدل على حلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعفوه عند المقدرة ما ثبت في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوة قبل نجد فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معهم فأدركتهم القائلة يوماً في واد كثير العضاه، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستظل تحت شجرة فعلق بها سيفه قال جابر: فنمنا بها نومة ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعونا فأتيناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن هذا اخترط سيفه وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، فشام السيف وجلس) فلم يعاقبه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد فعل ذلك.8

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله, اعدل!! فقال: (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل).9

كيف لو قيل هذا الكلام لملك من الملوك أو سلطان من السلاطين؟ لكان الرد قاسياً والعقاب شديداً، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- تحلى بأرفع مقامات الصبر والحلم.

فهذه نماذج  على حلمه -صلى الله عليه وسلم- تدل بوضوح على ما كان يتمتع به النبي -صلى الله عليه وسلم- من خلق عظيم.

نسأل الله التأسي به في الأقوال والأعمال والسلوك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


1 رواه الطبراني، والحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي معلقاً: ما أنكره وأركه!. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/1): رجاله ثقات. وهكذا قال ابن حجر: رجال إسناده موثوقون. لكن ضعفه الألباني وقال: منكر.  ويظهر من هذا أن الحديث مختلف في تصحيحه وتضعيفه.

2 رواه البخاري ومسلم.

3 رواه البخاري ومسلم.

4 رواه البخاري ومسلم.

5 رواه البخاري ومسلم.

6 رواه البخاري ومسلم.

7 رواه أحمد وأبو داود. قال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح بطرقه وشواهده.

8 رواه الإمام أحمد وأصله في البخاري ومسلم.

9 رواه البخاري ومسلم.