إجلال العلماء وتقديرهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
أيها المسلمون:
إن للعلماء قدرهم عند الله -تعالى- ومنزلتهم السامية التي أنزلهم الله ورسوله إياها.فهم عصمة للأمة من الضلال، وهم سفينة نوح من تخلف عنها -لا سيما في زمن الفتن- كان من المغرقين، وهم أولياء الله الذين قال فيهم رسول الله ﷺ : (أولياء الله: الذين إذا رؤوا ذكر الله)1
قال الإمام أبو حنيفة: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي.
وقال الشافعي: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة فما لله ولي.2
وقال عكرمة : إياكم أن تؤذوا أحداً من العلماء، فإن من آذى عالماً فقد آذى رسول الله ﷺ .
والعلماء هم حراس الدين وحماته من الابتداع والتزييف، فعن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ومعاذ وابن عمر وغيرهم أن رسول الله ﷺ قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله،ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين). وقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟!! فقال: يعيش لها الجهابذة)3. وعن ابن علية قال: أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لِمَ تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك.
قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله ﷺ كلها ما فيها حرف نطق به؟! فقال الرشيد: فأين أنت يا عدو الله من إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلاً فيخرجونها حرفاً حرفاً.4
أيها المسلمون:- إن العلماء صمام أمان الأمة، وإن بقاءهم نجاة الأمة وهلكتهم هلكتها.
قال هلال بن خباب: سألت سعيد بن جبير؛ قلت: يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؛ قال:إذا هلك علماؤهم. هذه هي منزلة العلماء ومكانتهم في الدين. ويجب على كل مسلم أن يتأدب معهم أشد الأدب قال الطحاوي – رحمه الله -: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل،ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل)5
قال الشاعر:
أفضل أستاذي على فضل والدي | وإن نالني من والدي المجد والشرف |
فهذا مربي الروح والروح جوهر | وذاك مربي الجسم والجسم كالصدف |
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة، وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل: قال فلان خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال، فإنه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء).6
وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال: إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، وألا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفضي له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته.7
وقال طاووس بن كيسان: إن من السنة أن توقر العالم.8
وعن الحسن قال: رئي ابن عباس يأخذ بركاب أبي بن كعب فقيل له: أنت ابن عم رسول الله ﷺ تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟! فقال: إنه ينبغي للحبر أن يعظم ويشرف.. وعن الشعبي قال: صلّى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال له زيد: خل عنك يا ابن عم رسول الله ﷺ . فقال ابن عباس: هكذا يفعل بالعلماء والكبراء. وفي رواية عنه قال: أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله ﷺ ؟ قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء.9
أيها المسلمون: انظروا إلى الأدب الذي ينبغي أن يكون من العلماء ورثة الأنبياء،واليوم نرى عكس ما كان من احترام العلماء وتقديرهم.. إذ نرى أناساً انسلخوا من أخلاق السلف كما تنسلخ الحية من جحرها، لا يراعون لشيخ حرمة، ولا يوجبون لطالب ذمة.وهاك صوراً من عدوانهم وتطاولهم: فهذا أحدهم يعير العلماء بأنهم: فقهاء الحيض والنفاس! وآخر يخاطبهم قائلاً: متى تخرجون من فقه المراحيض ودورات المياه؟! وآخر ينكر في أحد المؤتمرات على من يصفهم بأنهم: من عيِّنة المنخنقة، والموقوذة،والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع!.
وكم نرى من الصحف العلمانية الخبيثة الطاعنة في الإسلام والخادمة للكفر والإلحاد؛ نراها تطعن في العلماء وتسخر منهم. وقد هالني صورة رأيتها في إحدى الجرائد لشيخ علم مشهور يجلس على كرسي وبجواره امرأة تغزل ثوباً من لحيته، إن ذلك استهزاء بسنة الرسول ﷺ قبل أن يكون استهزاء بذلك الشيخ. وقد قال –تعالى-: ((والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)).(الأحزاب: 58).
ولقد كفر الله جماعة من المنافقين إذ سخروا من مجموعة من الصحابة القراء: ووصفوهم بالجبن وكبر البطن فأنزل الله – تعالى- قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}(التوبة65- 66).
أيها المسلمون: إن الجناية على العلماء خرق في الدين، احذر أخي المسلم: الوقيعة في أهل العلم وإلا حشرت نفسك في خندق واحد تظاهر أعد الإسلام الذين يحاولون تحطيم قمم الإسلام باعتبار ذلك أقصر طريق لطعن الإسلام نفسه، فلا تكونن ظهيراً للمجرمين،واستحضر قول موسى الكليم -عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم-: ((قال رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين)) القصص: 17.
إن محاولة (هدم القمم) للتوصل بذلك إلى هدم الدين وإطفاء نوره هي سياسة قديمة قِدم الكائدين لهذا الدين: فمن محاولاتها الأولى: ما جرى من حديث الإفك في حق الصديقة بنت الصديق، الطاهرة البتول، المبرأة من فوق سبع سماوات أم المؤمنين – رضي الله عنها -، فقد كان الإفك طعنة موجهة في المقام الأول إلى صاحب الرسالة ﷺ ثم للرجل الثاني في الإسلام أبي بكر ثم لعائشة الصديقة التي ُحمل عنها ربع الشريعة.
ومن هذه المحاولات: اجتهاد أعداء السنة والتوحيد من المستشرقين، وأذنابهم من الذين نافقوا في الطعن في راوية الإسلام أبي هريرة ، وهو أكثر الصحابة رواية عن رسول الله ﷺ ، وهذا عين ما يقال في المحاولات الخائبة للطعن في صحيح البخاري باعتباره أصح كتاب بعد القرآن العظيم. ومن ذلك ما يدأب فيه الرافضة- قبحهم الله ونكس رايتهم – من الطعن في صحابة رسول الله ﷺ وتصويرهم في أشنع صورة وأقبحها، وكلما عظم بلاء الصحابي في رفع راية الإسلام ونصرته بالعلم والعمل والجهاد، عظم حظه من تطاولهم وأحقادهم كالخلفاء الثلاثة،والمجاهدين الفاتحين الذين أطفأوا نار المجوسية، وكسروا ظهر الكسروية.
ومن ذلك: حرص الأبواق المنافقة على الطعن في المجددين الذين بَعثوا سنَّة النبي ﷺ وذبوا عن دعوة التوحيد كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب؛ وغيرهم من المجددين إلى يومنا هذا. فمن وافق القوم في تطاولهم على رموز الإسلام، فقد أعانهم من حيث لا يدري أو من حيث يدري على تحقيق غاياتهم الخبيثة، وشمّت بنا أعداء الدين،
كل المصائب قد تمر على الفتى | وتهون، غير شماتة الأعــداء. |
رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
معشر المسلمين:
لقد أدرك أعداء الله أهمية صلة الأمة بعلمائها، فسعوا ليل نهار إلى تشويه صورة العلماء أمام الأمة حتى يفقد الناس ثقتهم بعلمائهم.
وسنتكلم عن هذه أسباب ظاهرة التطاول على العلماء؛ وسنذكر هذه الأسباب سبباً سبباً.
أول هذه الأسباب: هم أعداء الله المنافقون ومن ورائهم اليهود والنصارى.
وأنهم يسعون ليل نهار في ذلك عبر وسائل الإعلام والصحف والمجلات، وأنى لهم ذلك ولن يستطيعوا بإذن الله، فالأمة متمسكة وواثقة بعلمائها بإذن الله – تعالى-.
ومن الأسباب: التأثر بفوضوية الغربيين ونعراتهم، ويتضح هذا في سلوك بعض الشباب الذين يبتلون بالإقامة في ديار الغرب، فيتشربون منهم بعض القيم، وبخاصة سلوكهم إزاء أكابرهم وعظمائهم، بحجة حرية الرأي والتعبير، واعتزازاً بما يدينون به من الفوضوية، التي يسمونها (ديمقراطية) دون أن يتفطن هؤلاء الشباب إلى الفروق بين القيم الإسلامية،
وبين القيم الغربية. فمن مظاهر الديمقراطية (تحكيم) رجل الشارع، في قضايا الأمة المصيرية حتى لو كان ساقط العدالة، أو غارقاً في الجهالة، يحتاج ليتعرف على مرشحه أن يوضع له الرمز الانتخابي كالساعة والسيارة والنخلة، في حين أن الإسلام يجعل الحكم في ذلك إلى أولي الأمر، أهل الحل والعقد المؤهلين للنظر في هذه القضايا دون غيرهم، قال –تعالى-: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (83) سورة النساء. وهذا رسول الله ﷺ يسمي رجل الشارع هذا بالرويبضة، ويجعل إقحامه في القضايا العامة المصيرية من أشراط الساعة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول اللهﷺ : (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة).قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه، يتكلم في أمر العامة.10
ومن الأسباب: التعصب الحزبي، والبغي، وعقد الولاء على غير الكتاب والسنة؛ فبعض الناس يربون أتباعهم على الولاء لأشخاصهم والانتماء لذواتهم، أو جماعاتهم، ويوالون في ذلك ويعادون دون اعتبار لمبدأ الحب في الله والبغض في الله،
وفي هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحداً بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه فيقدم من قدم الله ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله.11أ.هـ
واذكر بقية الأسباب سرداً للاختصار. ومن الأسباب: تشيخ الصحف وافتقاد القدوة.وكذلك: استعجال التصدر قبل تحصيل الحد الأدنى من العلم الشرعي بحجة الدعوة. وكذلك التعالم وتصدر الأحداث (الصغار) وكذلك: الاغترار بكلام العلماء بعضهم في بعض.
ومن الأسباب الرئيسية: جهل المنتقدين بأقدار من ينتقدونهم من العلماء. ومن الأسباب عدم التثبت في النقل؛ وكذلك: التحاسد والتنافس والرياسة والفراغ، والجحود وعدم الإنصاف.وأخيراً من الأسباب استثمارالمغرضين لزلات العلماء.
ألا ياعباد الله اقدروا للعلماء قدرهم، واعرفوا لهم فضلهم، فهم قوتكم وعزكم.. وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المراجع/ الإعلام بحرمه أهل العلم والإسلام. بتصرف.
1– أخرجه الطبراني وهو حديث صحيح، انظر السلسلة الصحيحة رقم (1733).
2– الفقيه والمتفقه (1/36).
3– اللآلئ المصنوعة للسيوطي (2/472).
4– تذكرة الحفاظ (1/252).
5– شرح الطحاوية (2/740).
6– جامع بيان العلم وفضله (1/580).
7– إرشاد الطالب ص(8/792).
8– جامع بيان العلم وفضله (1/459).
9– المصدر السابق (1/456).
10– مجموع الفتاوى (11/512).
11– مجموع الفتاوى (11/512).