الحكمة

الحكمـة

الخطبة الأولى

إن الحمد نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها المسلمون: إن الله تعالى هو الحكيم سبحانه وتعالى، وقد أمر عباده بأن يكونوا حكماء في أعمالهم وتصرفاتهم ودعوتهم قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(125) سورة النحل. فما معنى الحكمة؟ وما حقيقة هذا المفهوم؟ وما مدى أهميته.

فأما أهمية هذا الموضوع فتبرز في أمور كثيرة، من ذلك:

أن الله تعالى حكيم، متصف بالحكمة، وهي منه بمعنى: علمه بالأشياء وإيجادها على غاية الإحكام. وأنه نسبها إلى نفسه، وجعل إيتاءها من عنده فقال سبحانه:{يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء} (269)سورة البقرة. والنبي -صلى الله عليه وسلم- مُلئ قلبه بالحكمة كما في حادثة شق الصدر1، وكانت مهمته تعليم الحكمة، فجاءت أعماله ملازمة للحكمة في أكمل صورها.

والحكمة هي الفقه في الدين -كما فسرها كثير من السلف- والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدِّين)2.

وهي كلمة جامعة بين العلم والعمل.

وقد مدحها الله لاشتمالها على الخير الكثير، فقال: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(269)سورة البقرة. وقد أمر بها مطلقاً من غير أن يقيدها بالحسن؛ لأنها حسنة بذاتها، فقال: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(125)سورة النحل. وهي كذلك طريق من طرق الدعوة، وأسلوب يندرج تحته بقية الأساليب.

وهي ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها. وهي أيضاً موضع تحاسد وغبطة، لاستحقاقها ذلك لشرفها ومكانتها، قال -صلى الله عليه وسلم-:(لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)3 .

إننا بحاجة لأن نتكلم عن الحكمة، ونبين معناها الصحيح وذلك دفعاً للفهم الخاطئ لمعنى الحكمة؛ حيث حمله البعض على أنه اللين والرفق دوماً، ويرى آخرون أنه المداهنة والسكوت عن الحق، ويحسب آخرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قادحاً في الحكمة.

أيها المسلمون: إن معاني الحكمة تدور في اللغة حول المنع؛ (لأنها تمنع صاحبها من الوقوع فيما يذم فيه، أو ما قد يندم عليه، وتمنعه من اختيار المفضول دون الفاضل، أو المهم قبل الأهم)4. وقد وردت في القرآن مقترنة بالكتاب ففسرت بالسنة، كما وردت مفردة ففسرها المفسرون بتفسيرين: الأول: النبوة، والثاني: العلم والإتقان، والتوفيق، والبصيرة، والعمل الصائب، ومنع الظلم، ووضع الشيء في موضعه، وكلها معان متقاربة. وقد وردت في السنة النبوية بنحو هذا المعنى5.

ويمكن تعريفها بتعريف جامع مانع، فيقال هي: (الإصابة في القول والعمل والاعتقاد، ووضع كل شيء في موضعه، بإحكام وإتقان)6، أو بتعبير آخر هي : (فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي)7، فهذا يشمل القول أيضاً؛ لأنه يعدّ فعلاً. والوجه الذي ينبغي: الطريقة التي يؤدى بها القول أو الفعل أياً كان، مع مراعاة اختلاف الزمان والمكان.

فتبين أن الحكمة في الدعوة لا تقتصر على الكلام اللين أو الترغيب أو الحلم أو الرفق أو العفو… بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فتشمل جميع الأساليب الدعوية، فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في موضعه، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، ومجادلة الظالم المعاند في موضعها، والزجر والقوة والغلظة والشدة والسيف في مواضعها، وهذا هو عين الحكمة، لموافقته لقوله-تعالى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}،(125) سورة النحل. وقوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (46) سورة العنكبوت، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(73) سورة التوبة. كل ذلك مع الاستقامة على دين الله وحسن النية وسلامة القصد وصدق الرغبة فيما عند الله -تعالى- ، وإلا كان كل ذلك نوعاً من النفاق.

عباد الله:

ما ظُلِمَتْ كلمة مثل الحكمة باسم الحكمة؛ فكم أساء فهمها الكثير، حتى من المنتسبين للعلم والدعوة، حتى صارت مركباً سهلاً لكل من صعب عليه التزام المنهج، أو لاحت أمامه المكاسب الدنيوية والمصالح الشخصية فصار شعاره الحكمة، ولكن بمفهوم آخر تماماً يدل عليه منهجه الذي جعله متمثلاً في اتباع اللين في كل أمر، ومجاراة الأمر الواقع، وربما التنازل عن المبادئ، والخجل من التزام الشرائع، والتشنيع على كل من يلتزمها. والخطورة تكمن في محاولة هؤلاء المتخاذلين المنهزمين طمس معالم المنهج الصحيح، وإحلال منهجهم ذي الحكمة المترهلة العجينة المزيفة.

اللهم آتنا الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:

الحمد لله العليم الحكيم، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله:

إن الحكمة رتبة رفيعة، وليست متاحة لكل أحد، بل هي مع بذل الأسباب، وتوافر الأركان فضل من الله ونعمة، ولذا قال- تعالى:{يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (269) سورة البقرة، وهذا مما يوجب على طالبها أن يسألها من مالكها -سبحانه وتعالى-، وعلى من حصلت له أن يستشعر محض فضل الله ومنته، مع سعيه في توفير أركانها، وبذل أسبابها التي تحصل بها، والتي منها:

أولاً: التجرد والإخلاص والتقوى: قال – تعالى:{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}(282) سورة البقرة البقرة: 282. وإذا كان الهوى من موانع الحكمة، فإن التقوى والإخلاص أساسها.

ثانياً: العلم الشرعي: وقد قرن الله بين الحكمة والعلم في عدة آيات، منها قوله:{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}(74) سورة الأنبياء. والمراد بالعلم: العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بأخباره، وأوامره المتعلقة بالقلوب والجوارح.

ثالثاً: الحِلم: وهو رجاحة العقل. والعقل: مكان الحكمة وبيتها. وبينهما اشتراك لفظي ومعنوي، ومما يدل على علاقته بها أن الله – تعالى – ذكر الحكمة، فقال: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (269) سورة البقرة،  ثم ختم الآية بقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} ليبين أنه- تعالى وتقدس – لا يؤتي الحكمة إلا أهل العقول الوافية؛ فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه، والضار فيتركونه. ويراد بالحلم أيضاً: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وهو حالة متوسطة بين الغضب والبلادة، وهذه الحالة يقتضيها العقل السليم.

رابعاً: الأناة وهي: التثبت وعدم العجلة. وتعرف أيضاً بأنها: التصرف الحكيم بين العجلة والتباطؤ. وهي: مظهر من مظاهر الصبر، وهي معينة على إحكام الأمور ووضعها في مواضعها. وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة، ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة. وقد أمر الله بالتثبت فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}(6)سورة الحجرات. وذم العجلة والاستخفاف فقال:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(83) سورة النساء.

خامساً: التجربة والخبرة: فالتجربة في الحياة رصيد ضخم تعادل أعلى الشهادات، فإذا أضيفت إلى العلم أصبحت أهم من الشهادات؛ لأن التجربة في الشهادة قاصرة. قال معاوية -رضي الله عنه-: (لا حكيم إلا ذو تجربة)8.

والتجارب تنمي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجع الجبان، وتليِّن القاسي، وتسخِّي البخيل، وتقوِّي الضعيف9.

ولذا كان أكمل الناس تجربة وحكمة الأنبياء؛ رعوا الغنم، ثم جربوا الناس فازدادوا بهم خبرة، وعرفوا سنن قيادتهم، قال موسى -عليه الصلاة والسلام- لنبينا محمد عليهما الصلاة والسلام: (إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة في كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك)10 .

سادساً: فقه السنن: فقد حث الله على النظر في السنن الكونية الشرعية، والتفكر في أحوال الماضين فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (46) سورة الحـج، فقرن السير في الأرض – وهو إما حسي أو معنوي – بالعقل، وهو موطن الحكمة، ويحصل مثل هذا السير بالاطلاع على أحوال الماضين، وقراءة التاريخ لمعرفة تجارب الآخرين وإضافتها إلى التجربة الشخصية.

هذه بعض الأسباب التي ينال بها العبد الحكمة، ولعل من أعظمها وأنفعها دعاء الله تعالى وسؤاله الحكمة، اللهم آتنا الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، اللهم وفقنا للعمل بكتابك وسنة نبييك محمد –صلى الله عليه وسلم- ، والحمد لله رب العالمين11.


1 رواه البخاري، ح/349، ومسلم، ح/136 وفيه أن الملك ملأ صدره بالحكمة بعد أن فرّغه من غيرها.

2 رواه البخاري، ح/71، ومسلم، ح/1037.

3 رواه مسلم، ح/816، ومعنى (فسلطه على هلكته) أي: على إنفاقه في الطاعات.

4 الحكمة، العمر، ص 13.

5 انظر: المصدر السابق، ص 19 وما بعدها.

6 الحكمة، سعيد القحطاني، ص 30.

7 انظر: الحكمة، العمر، ص 25.

8 رواه البخاري موقوفاً مجزوماً به، الفتح، 10/546.

9 رواه البخاري، ح/6133.

10 رواه البخاري، ح/3887.

11 راجع مجلة البيان العدد 126 ص 28 بتصرف.