تخصيص شهر رجب بالصيام

تخصيص شهر رجب بالصيام

 

الحمد لله مدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملك القدوس السلام، والصلاة والسلام على خير الأنام، محمد بن عبد الله خير من صلى وصام، وعلى آله وصحبه مصابيح الظلام، والتابعين لهم بإحسان على الدوام.

أما بعد:

فإنَّ الصيام ركن من أركان الإسلام، وعبادة جليلة يتقرب بها إلى الملك العلام؛ والعبادة كما هو معلوم لابد لقبولها من شرطين أساسيين: أحدهما الإخلاص لله-تعالى-. والثاني: الموافقة للسنة؛ قال الله -تعالى-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} سورة الكهف(110). وعليه فإنه يجب على العبد أن يخلص لله في عبادته، وأن يكون موافقاً لما شرعه، فيعمل ما شرعه الله، ويترك ما لم يشرعه الله، ويدور مع  الدليل (الكتاب والسنة) أينما وجد.

والله -جل وعلا- قد شرع لنا شرائع عبادة مطلقة لم يقيدها بزمان ولا بمكان، وشرع عبادات مقيدة بأمكنة، أو بأزمنة، أو بهما معاً. فمن العبادات التي قيدها بزمن معين، عبادة الصيام؛ فشرع صيام شهر في السنة، وهو شهر رمضان، واتباعه بست من شوال، ويتخلل ذلك أياماً معينة جاءت السنة باستحباب صيامها؛ كيوم عرفة، وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، وهي الأيام البيض، ويومين في الأسبوع (الاثنين والخميس)، بل جاءت السنة باستحباب صيام يوم وإفطار يوم لمن كان قادراً. وعليه فمن عين له مكاناً، أو زماناً، لم تأت السنة ببيان أفضليته، أو استحباب تعظيمه، أو تعبد الله فيه، وتخصيص ذلك، والالتزام به؛ فإنه قد ارتكب خطأً شنيعاً، وتعبد لله بما لم يشرعه، وأتعب نفسه فيما يضره، ولا ينفعه. وقد يدخل تحت حديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع. ورُب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)1، ومعنى ذلك أنه ليس لصومه قبول عند الله، فلا ثواب له.

وعليه فمن خصص شهر رجب بصيام دون غيره من الشهور؛ لأنه معظماً عنده، أو زاعماً أنه قد جاء في السنة ما يدل على تخصيص صيامه، فإنه قد ابتدع في دين الله ما لم يشرعه، وفعل فعلاً لم يأمر به المعصوم-صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا التابعون، ولا السلف الصالح. فمن خصص شهر رجب بالصوم؛ فليأت بالدليل النقلي الصحيح، وأنى له ذلك؟!. كيف وقد صحَّ عن ابن عباس-رضي الله عنه- أنه كان ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيد2. وصحَّ عنه أيضاً قال: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: أما تخصيص رجب وشعبان جميعاً بالصوم، أو الاعتكاف، فلم يرد فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان، من أجل شهر رمضان4. وصحََّ أن عمر بن الخطاب-رضيه الله عنه- كان يضرب أيدي الناس ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول: لا تشبهوه برمضان. ودخل أبو بكر فرأى أهله قد اشتروا كيزاناً للماء، واستعدوا للصوم، فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب. فقال: أتريدون أن تشبهوه برمضان؟ّ وكسَّر تلك الكيزان5. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: أنَّ تعظيم شهر رجب من الأمور المحدثة التي ينبغي اجتنابها، وأن اتخاذ شهر رجب موسماً بحيث يفرد بالصوم مكروه عن الأمام أحمد -رحمه الله- وغيره6. وقال ابن رجب-رحمه الله-: وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه، ولكن روي عن أبي قلابة قال: في الجنة قصر لصوام رجب7. وقال ابن قيم الجوزية-رحمه الله- في هديه -صلى الله عليه وسلم- في صيام التطوع: لم يصم الثلاثة الأشهر سرداً -رجب وشعبان ورمضان -كما يفعله بعض الناس، ولا صام رجباً قط، ولا استحب صيامه، بل روي عنه النهي عن صيامه ذكره ابن ماجه8.

فإن قال قائل: إنَّ الصيام جُنَّة، وفعل خير، وعمل بر، فلماذا تمنعون من الصيام؟ (أعني صيام شهر رجب)؟. فيقال: الخير ما جاء الشرع بتقريره، وبالحث عليه، والشر ما جاء الشرع بمنعه والتحذير منه، وما من خير إلا قد بينه الله لنا في كتابه وفي سنة رسوله، وما من شر إلا حذرنا منه، فينبغي أن يكون تخصيص شهر رجب بصيام مشروعاً، وقد علمنا أن لم يصح حديثاً في تخصيص شهر رجب بصوم، وأن ما جاء من ذلك الأحاديث فإنها ضعيفة أو موضوعة، فخرج عن كونه مشروعاً، وإنما كانت تعظيمه مضر في الجاهلية؛ كما قال أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-، وضرب أيدي الذين كانوا يصومونه، وكان ابن عباس حبر القرآن يكره صيامه9. وقال الطرطوشي- رحمه الله-: يكره صيام رجب على أحد ثلاثة أوجه: أحدها: إذا خصَّه المسلمون بالصوم في كل عام، حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان. الثاني: أو أنَّه سنة ثابتة خصَّه رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كالسنن الراتبة. الثالث: أو أنَّ الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على سائر الشهور، جار مجري صوم عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان من باب الفضائل لسنَّه -صلى الله عليه وسلم-، أو فعله ولو مرة في العمر كما فعل في صوم عاشوراء، وفي الثلث الغابر من الليل. ولمَّا لم يفعل بطل كونه مخصوصاً بالفضيلةٍ، ولا هو فرض، ولا سنة باتفاق، فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه، فكره صيامه والدوام عليه، وحذراً من أن يلحق بالفرائض والسنن الراتبة عند العوام10.

وكما ذكرنا أنَّ ما ورد في تخصيصه بصيام من الآثار فكلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات، وأكثر ما روي في ذلك أن النبي-صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل رجب يقول: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)11. وليعلم أننا لسنا نحرم الصيام، أو نبدع من يصوم، وإنما نخطأ من يخصص شهر رجب بصيامه كاملاً، ولذلك فلو أنََّ إنساناً صام بعضه وأفطر بعضه، أو صام الأيام المشروعة صيامها؛ كأيام البيض، والاثنين والخميس، أو صام يوماً وأفطر يوماً؛ استحب له ذلك، عملاً بالأحاديث الصحيحة التي وردت بصيام تلك الأيام، وله أن يصوم من الشهر ما شاء الله أن يصوم؛ لحديث عن أنس- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى يظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى يظن أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته12. والله نسأل أن يوفقنا لإخلاص العمل لله –تعالى-، واتباع سنة النبي- صلى الله عليه وسلم-. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله أنت نستغفرك ونتوب إليك.


1 – رواه ابن ماجه، وأحمد، والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري و لم يخرجاه. ورواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، رقم(1371). وهو في صحيح الجامع، رقم(3488).

2 – رواه عبد الرزاق في مصنفه. وقال ابن حجر: وهذا إسناد صحيح. راجع تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، صـ(35). طبع سنة(14000هـ). بعناية الشيخ عبد الله بن جبرين.

3 – رواه البخاري ومسلم.

4 – رواه البخاري ومسلم، وليس فيهما زيادة: (من أجل شهر رمضان).

5 – قال ابن قدامة: وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي بكرة – ثم ذكر هذا الأثر-  يراجع: المغني (3/167) . والشرح الكبير (2/52) . قلت: ولكني لم أجده في مسند الإمام أحمد. وقد ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (25/291) . عن أبي بكرة . وذكره أيضاً في اقتضاء الصراط المستقيم (2/265) . عن أبي بكرة . وذكر ابن حجر في تبيين العجب أن سعيد بن منصور رواه في سننه عن أبي بكرة . يراجع : تبيين العجب بما ورد في فضل رجب، صـ(35).

6 – راجع: "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/624، 625 ).

7 – الأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية،(3/368) رقم(3802). وقال أحمد: و إن كان موقوفاً على أبي قلابة، و هو من التابعين فمثله لا يقول ذلك إلا عن بلاغ عمن فوقه ممن يأتيه الوحي، و بالله التوفيق. الناشر: دار الكتب العلمية-بيروت-الطبعة الأولى(1410). تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول. وراجع لطائف المعارف صـ(131). طبعة مؤسسة الريان- دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1414هـ).

8 – انظر: "زاد المعاد" (2/64). تحقيق وتخريج شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط. طبع مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثالثة، سنة(1402هـ). الناشر مكتبة المنار الإسلامية، الكويت.

9 – للاستزادة راجع: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة، صـ(48، 49). طبع ونشر مطبعة النهضة الحديثة بمكة المكرمة، الطبعة الثانية(1401هـ).

10 – انظر: "الحوادث والبدع" صـ(130، 131). تحقيق محمد الطالبي، طبع المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، تونس(1959م).

11– رواه الإمام أحمد، وقال الألباني في تعليقه على المشكاة: ضعيف، (1/306) رقم(16). الناشر : المكتب الإسلامي – بيروت

الطبعة: الثالثة (1405) هـ.

12 – رواه البخاري.