تفسير سورة الناس
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، أما بعد:-
سورة الناس كسورة الفلق في مكان النزول وسببه، والدليل على أنهما نزلتا في زمان واحد، ما رواه مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لقد أنزل الله عليّ آيات لم ير مثلهن: (قل أعوذ برب الناس) إلى آخر السورة و (قل أعوذ برب الفلق) إلى آخر السورة).
وأما المكان فاختلف فيهما فقيل مكيتان وقيل مدنيتان..
والذي يظهر أنهما مدنيتان؛ لأنهما أنزلتا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عندما سُحر فكان يرقي نفسه بهما كما سنذكره..
ثبت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سُحر، وكان يخيل إليه أنه يأتي نساءه ولا يأتيهن في الحقيقة، وكان الذي سحره لبيد بن الأعصم اليهودي فأنزل الله عليه هاتين السورتين.. وسنورد تلك الروايات:
روى الإمام البخاري في كتاب الطب من صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا، فقال: (يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم) رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقاً، (قال: وفيمَ؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان). قالت: فأتى البئر حتى استخرجه فقال: (هذه البئر التي أريتها، وكأنَّ ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشيطان) قال: فاستخرج، فقلت: أفلا تنشرت؟ فقال: (أما الله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً).
وذكر القرطبي – رحمه الله – أن الله أنزل على رسوله هاتين السورتين وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العقد، وأمر أن يتعوّذ بهما؛ فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد النبي – صلى الله عليه وسلم – خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة، فكأنما أنشط من عقال، وقال: ليس به نفس.. وجعل جبريل يرقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر حاسد وعين، والله يشفيك) رواه مسلم.
أقوال المفسرين في بيان الآيات:
(قل أعوذ برب الناس) أي مالكهم ومصلح أمورهم، وإنما ذكر أنه رب الناس وإن كان رباً لجميع الخلق لأمرين:
أحدهما: لأن الناس معظمون، فاعلم بذكرهم أنه ربٌ وإن عظموا، والثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم.1
ومعلوم أن الرب هو المربي للناس وهو خالقهم ومنشؤهم والمتصرف فيهم كما جاء في الحديث عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: ((قل: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك)) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.
وقوله: (ملك الناس) والمالك الحق هو الله كما قال –تعالى-: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (114) سورة طـه. وكل الملوك والزعماء عبيد للملك الحق المبين – عز وجل -.
وإنما ذكر أنه ملك الناس هنا؛ لأن في الناس ملوكاً يذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه ملكهم الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه دون الملوك..
(إله الناس) الإله: من إله يأله إلاهة وألوهية، وهو المحبوب المطاع والتأله التعبد، فإذا كان هو خالق الناس وربهم ومليكهم فيلزم أن يكون إلههم الذي إليه يتجهون في العبادة والطاعة، ومن العبادة الاستعاذة واللجوء إليه – عز وجل -.
وهنا ذكر الله توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية في أوجز لفظ، وأجمع معنى، وهذا ما يذكره العلماء: أن الله – تعالى- رب كل شيء وخالقه فليزم من ذلك أنه معبودهم وقاضي حاجاتهم فلا يليق التوجه إلى من هو دونه؛ لأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
قال ابن كثير – رحمه الله -: (هذه ثلاث صفات من صفات الرب – عز وجل -: الربوبية والملك والإلهية، فهو رب كل شيء وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات من شر الوسواس الخناس وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش ولا يألوه جهداً في الخبال، والمعصوم من عصمه الله).2
فالشيطان هو المستعاذ منه لخبثه وشره ومكره وخفاء كيده، فإن الذي يقدر عليه ويعلم وسوسته هو الإله الملك الرب -عز وجل- الذي أحاط بكل شيء علماً، ولهذا قال:
(من شر الوسواس الخناس) يعني: من شر الشيطان، والمعنى: من شر ذي الوسواس فحذف المضاف، قاله الفراء وهو (بفتح الواو) بمعنى الاسم أي الموسوس. و(بكسر الواو) المصدر، يعني: الوسوسة، وكذا الزَّلزال والزِّلزال، والوسوسة حديث النفس، يقال: وسوسَ نفسه وسوسة ووِسوسة (بكسر الواو).
(والخناس) الخنس هو الاختفاء والتأخر، يقال: خنس يخنس إذا تأخر، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
فإن دخسوا فاعف تكرمـــاً وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل
قال مجاهد: (إذ ذُكر الله خنس وانقبض، وإن لم يُذكر انبسط على القلب) ووصف بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء، ومنه قول الله –تعالى-: ((فلا أقسم بالخُنَّس)) يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها، ذكره القرطبي.
وقال قتادة: (الخناس) الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل الإنسان وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس.
وروي عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس) ولا يصح هذا الحديث.
قال ابن عباس: إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومنَّاه.
(الذي يوسوس في صدور الناس) ثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) رواه البخاري ومسلم.
قال مقاتل: (إن الشيطان في صورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلّطه الله على ذلك، فذلك قوله –تعالى-: (الذي يوسوس في صدور الناس).
قال القرطبي: (ووسوسته هو الدعاء لطاعته بكلام خفي؛ يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت).
وهذه الوسوسة هي ما يجده الإنسان في صدره من الأفكار الشريرة والخاطئة التي تدعوه إلى فعلها وتطبيقها؛ ومن هذا ما جاء في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم-: (إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك ؟ فيقول: الله، فيقول: فمن خلق الله ؟! فإذا وجد ذلك أحدكم، فليقرأ: آمنت بالله ورسله، فإن ذلك يذهب عنه)) صححه الألباني، وورد في صحيح مسلم نحوه.
ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن) قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: (وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير) رواه مسلم، والمقصود بالأمر هنا هو حديث النفس الذي يفكر به الإنسان..
وقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يستعيذ العبد من الشيطان ولا يلعنه؛ لأنه يتعاظم ويفتخر: فعن أبي تميمة أنه حدث عن رديف النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: عثر بالنبي – صلى الله عليه وسلم – حماره فقلت: تعس الشيطان! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (لا تقل: تعس الشيطان، فإنك إذا قلت: تعس الشيطان تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: باسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب) رواه الإمام أحمد وأبو داود وقال ابن كثير – رحمه الله -: وإسناده جيد قوي3، وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغُلب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغَلب.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (إن أحدكم إذا كان في المسجد جاء الشيطان فالتبس به كما يلتبس الرجل بدابته، فإذا سكن له زنقه أو ألجمه) قال أبو هريرة: وأنتم ترون ذلك، أما المزنوق فتراه ماثلاً كذا – أي قائماً وجالساً- لا يذكر الله، وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله – عز وجل -) تفرد به الإمام أحمد؛ وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح.. فاتضح من حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن كلام الأئمة المفسرين أن الشيطان يدخل القلب والجسد فيوسوس للإنسان فعل الشرور؛ وذلك بالتفكير فيها، والتمادي في هذا التفكير، فإذا دفع العبد تلك الوساوس بذكر الله ذهبت واختفى كيد الشيطان، وإذا استمر فيها ظهرت على لسانه وجوارحه فيطبقها في واقعه وحياته – والعياذ بالله-.
وقد يقوى الشيطان – من الجن- على الإنسي وذلك عند الغفلة عن الله فيدخل في جسده ويوجهه حيث أراد كما نعرف ذلك في ظاهرة المس الشيطاني التي نراها اليوم تصيب كثيراً من الناس فيتحدث الشيطان على لسان الآدمي ويخبر بما يريد، وهذا الاستيلاء وهذا البلاء بسبب الغفلة عن الله.
ثم بين الله – تعالى- من هو الموسوَس به (بفتح الواو الثانية) وقيل إنه بيان للموسوِس (بكسر الواو الثانية) على ما سيأتي من الخلاف، فقال:
(من الجنة والناس) أي أن الذي يوسوس هو من شياطين الإنس ومن شياطين الجن؛ وذلك أن للإنس شياطين كما هي للجن.. ولهذا قال الله – تعالى-:{شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } (112) سورة الأنعام.
فالضحية هو الإنسان – على هذا القول- وذلك أن شياطين الجن توسوس في الصدور كما تقدم، وشياطين الإنس توسوس في الصدور بما تحدثه فيها بسبب الكذب والتلفيق؛ ولهذا قال الحسن البصري: هما شيطانان؛ أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقد ورد أن أبا ذر – رضي الله عنه – قال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن) قال فقلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: (نعم). رواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان مطولاً.
اتضح بهذا أن المعنى: أننا – معشر الإنس- نستعيذ بالله تعالى من شر شياطين الإنس والجن؛ لأنهم يوسوسون في الصدور جميعاً… قال الشوكاني – رحمه الله -: (أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدور من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته).
والمعنى الآخر: ((من الجنة والناس)) مفعولاً بهم جميعاً بمعنى أن الشيطان يوسوس بكلا الفريقين في الجن والإنس، وعلى هذا فالمقصود بقوله: ((الناس)) في الآية قبلها: الإنس والجن؛ لأن هذه الآية على هذا المعنى بيان (للناس) الموسوس فيهم فبيَّنهم بهذه الآية بعطف البيان، والناس تطلق على الجن والإنس، فيكون المعنى: أن الشيطان يوسوس في صدور الجميع الإنس والجن، وكلا القولين صحيحان؛ فالشيطان يوسوس في صدور الجن وخاصة المؤمنين منهم؛ وكذا يوسوس في صدور الإنس وهذا واضح.
وعلى القول الأول: فإن شياطين الإنس توسوس في الصدور كما توسوس شياطين الجن كما تقدم.. ولا تعارض بين القولين.. والله أعلم.
وعلى كلٍ فقد أمرنا الله – تعالى- باللجوء إليه والعوذ به من هذا الكيد الخفي الذي تحدثه الشياطين في القلوب؛ لأن الله عليم بذات الصدور فهو الذي يقدر على دفع الوسوسة التي تقوم بها الشياطين..
وقوله (الجِنة) أي الجن، وسمي الجن جناً لاختفائهم (وجَنَّ) الشيء إذا اختفى كما قال الله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} (76) سورة الأنعام. فالليل يخفي كل شيء فلا يرى الإنسان فيه إلا ما ظهر بضوء.. ولهذا سمي (الجنين) جنيناً لاختفائه في بطن أمه..
تنبيه: يخطئ بعض العامة في قراءة (الجنة) فيفتحون الجيم لتصبح قراءتهم (الجَنّة) فيفهم أنها الجنة التي هي جزاء المتقين. وهذا ملاحظ مسموع، فلا بد من التنبيه عليه وتعليمهم القراءة الصحيحة وبالله المستعان..
فوائد مما سبق:
1. الاستعاذة من أجلّ العبادات؛ وهي جزء من العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله، والاستعاذة بغير الله – تعالى- شرك؛ ولهذا بين الله ذلك المنكر فقال: ((وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً)). والعوذ: هو الاحتماء والالتجاء، فمن استعاذ بغير الله وكله الله إليه، وقد جاء الأمر بها وصرفها لله حيث قال – تعالى-: ((فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)) وقال: ((وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين)).
2. أن قراءة هذه السورة تحمي العبد من الشياطين، وهي مع سورة الفلق رقية من المس الشيطاني.. وغيرها من الآيات، ومع أن القرآن كله رقية لكن هذه خصت لما فيها من ذكر اللجوء إلى الله.
3. لا يتمادى العبد ولا يستمر في الأفكار والوساوس القلبية، فإن تلك الخواطر والأفكار قد تتولد عنها أعمال وأقوال، لهذا أمر العبد إذا أحس بذلك أن يذكر الله – تعالى-، حتى يخنس الشيطان ويحل في القلب الرضوان.
4. إثبات أن للإنس شياطين وخبثاء يزينون للناس الكلام القبيح ويحسنون لهم الشر، فيجعلون الخبث والمكر نصحاً وشفقة على المخاطب، وهم يهدفون الوصول إلى مقاصدهم. فالاستعاذة منهم: أن يطلب العبد من الله حمايته من شرهم وكيدهم..
وقد يلقى كثير من الناس كلاماً هو باطل محض، لكنهم يزخرفونه بأنواع من المغريات كالبلاغة والأسلوب العالي ومكانة المتكلم، فيبدأ ذلك الكلام يفت في الصدور، ويعمل فيها عمله، فربما أدى إلى التشكيك فيما يعتقده الإنسان من الحق، أو النفور عن أهل الحق، وغير ذلك..
اللهم إنا نعوذ بك من شياطين الإنس والجن يا رب العالمين.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..