الغيرة

الغـيرة

الغـيرة

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فإنَّ من الأخلاق الحميدة، والخصال الرفيعة، والسمات النبيلة؛ خلق الغيرة؛ فإن التخلق بها مظهر من مظاهر الرجولة الحقة، ودليل على قوة الإيمان ورسوخه في القلب، وعلامة على تعظيم شعائر الله، وحفظ حدوده، وبها تُصان الأعراض، وتُحفظ الحرمات، وتنشر الفضيلة في المجتمعات، وتقل الرذيلة1.

بل إنَّ الغيرة صفة اتصف المولى -جل وعلا- بها؛ فعن ابنِ مسعود -رضي الله عنه- قال رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: (ما من أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الفواحش..) 2..

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-قال: (يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)3. ونحن نثبتها لله كما نثبت له بقية الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} سورة الشورى(11).

وكذلك الغيرة صفة اتصف بها رسل الله وأنبياؤه، واتصف بها عباده المؤمنون، ومصداق ذلك ما جاء في قصة سعد بن عُبادة -رضي الله عنه- أنه قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني)4.

وهذه الغيرة يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً؛ فكل شخص يغار بحسب قوة إيمانه وضعفه، ولذلك فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس غيرة؛ لما روي في الحديث السابق في قصة سعد رضي الله عنه.

ولكن غيرته صلى الله عليه وسلم لم تكن لنفسه ولا لقومه، ولا لحزبه، ولا لقبيلته، ولا لهوى نفسه، ولا يقصد من ورائه مصلحة دنيوية -حاشاه من ذلك- وإنما غيرته لله كانت إذا انتُهِكت حرمات الله، واعتدي على حدوده؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل يا رسول الله! أما تغار؟ قال: (والله إني لأغار, والله أغير مني, ومن غيرته نهى عن الفواحش).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما خُيّر رسول الله بين أمرين قطّ إلاّ وأخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً. فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه, وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله -تعالى-).

وهكذا يجب على المؤمن أن يكون غيورا إذا انتكهت محارم الله، وتجوِّزت حدوده؛، ومن ذلك الغيرة على أهله وحريمه، فإن كل أمة تموت الغيرة فيهم لابد وأن تضيع العفة، والصيانة من نسائهم، وهذا هو الضعف والخور، والعجز والجبن، الذي استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم-5.

والغيرة على حرمات الله من تعظيم الله، وفي ذلك خير لفاعله عند ربه؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} سورة الحـج(30)..

قال البغوي -رحمه الله- عند شرحه لهذه الآية: "أي معاصي الله وما نهى عنه وتعظيمها ترك ملابستها"6..

وقال ابن سعدي -رحمه الله- : "وحرمات الله كل ماله حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل"7

فهذه هي الغيرة التي تكاد تفقد من أسر وبيوت بعض المسلمين الذين يتهاونون بالحرمات ويقعون فيها، ويتثاقلون عن الطاعات ويتركونها، فينبغي على من سمع أو قرأ ما سبق من الآيات والأحاديث الآمرة بالغيرة على الحرمات والكف عن الشهوات، أن يتقي الله تعالى وأن يعلم أين هو من هذا الخلق الرفيع!

نسأل الله أن يصلح حال المسلمين في كل مكان.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


 


1 راجع:  موسوعة نظرة النعيم(7/3085).

2 أخرجه البخاري.

3 أخرجه البخاري.

4 أخرجه البخاري.

5 راجع:  موارد الضمان، للشيخ عبد العزيز السلمان (4/379).

6  معالم التنزيل، للبغوي صـ(382).

7 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(537).  تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق. الناشر: مؤسسة الرسالة. الطبعة : الأولى (1420هـ ).