العزوف عن الالتحاق بالدورات القرآنية

العزوف عن الالتحاق بالدورات القرآنية

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعـد:

فإن علم الكتاب والسنة من أشرف العلوم؛ لأنه علم يتعلق بالله، وبما له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وبه يعرف العبد كيف يعبد الله، وكيف يوحده، وكيف يخشاه، وكيف يتوكل عليه..ولذلك فإن الاشتغال به أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، كما جاءت بذلك الآثار؛ فعن علي-رضي الله عنه- قال: العالم أعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل الله. وعن أبي ذر وأبي هريرة-رضي الله عنهما- قالا: بابٌ نتعلمه من العلم أحبّ إلينا من ألف ركعة تطوع، وبابٌ من العلم نعلمه عمل به أو لم يعمل أحب إلينا من مائة ركعة تطوع. وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه-: مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة. وعن سفيان الثوري والشافعي- رحمهما الله-: ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. ولذلك فقد السابقون يقبلون على تعلم القرآن والسنة، ويتزاحمون على حلق العلم، ويحرصون عليها أشد من حرصهم على الطعام والشراب. وأما في هذا الزمان -وإلى الله المشتكى- نرى عزوفاً رهيباً عن طلب العلم (أعني علم الكتاب والسنة) من قبل كبار القوم وصغارهم، ونساءهم. فكبار القوم نراهم يزهدون عن العلم، وحضور مجالس العلماء، ولا يقرؤون في كتبهم النافعة، ولا يستمعون إلى أشرطتهم المفيدة. والأعجب من ذلك كله أنه ربما كان الواحد منهم في مسجد من المساجد لأداء الصلاة فيسمع واعظاً أو مذكراً بالله وباليوم الآخر فيولي مسرعاً في الخروج من المسجد، وكأنه كان في قفص فخرج منه-ولا حول ولا قوة إلا بالله-.

وأما صغار القوم( أصغار السن) فإنهم على دين كبارهم، ثم إنهم أيضاً يعزفون ويزهدون عن الالتحاق بحلق تحفيظ القرآن الكريم وعلومه، والدورات القرآنية التي تقام في الإجازة الصيفية، ويقلبون على معاهد اللغات تعليم الإنجليزية وغيرها، وهذه المعاهد في أغلبها معاهد مشبوهة، وفيها من المنكرات الشيء الكثير، من الاختلاط، وإضاعة للصلوات، وغير ذلك من المنكرات.

وإليك أخي أسوق إليك قصة تؤيد ما قلته من عزوف الشباب عن الالتحاق بالدورات القرآنية، وإقبالهم وتسابقهم على دورات معاهد اللغات؛ فهذا قصة شاب أوريها بمعناها: كنت ذات يوم في مسجد من المساجد، وكان في هذا المسجد تقام دورة صيفية، يعلم فيها أبناء المسلمين ما ينفعهم في أولاهم وأخراهم من تعاليم الكتاب والسنة، وأنا جالس  في المسجد وقع نظري على شاب جالساً بعيداً عن تلك الحلقات، فاقتربت منه، وسلمت عليه، وتعرفت علبه، ثم دار بيني وبينه حواراً طويلاً، ثم كان أن وجهت له سؤالاً، فقلت له: لماذا لا تلتحق بالدورة الصيفية؟ فقال: سألتحق بالدورة التي ستقام في معهد اللغات  (وذكر لي اسم المعهد)، فقلت له: هلاَّ تعلمت ما ينفعك في دينك ودنياك من العلوم الإسلامية؟ فأصبحت متشبعاً بتعاليم الدين الإسلامي القويم، فإذا كنت كذلك فلا حرج عليك أن تتعلم ما ينفعك من العلوم الدنيوية. فأصر على أن سيلتحق بتلك الدورة، فنصحته بتقوى الله، وأن يحرص على استغلال وقته، وبينت له قيمة الوقت. ولما رجعت إلى البيت وأنا أطالع في كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم -رحمه الله تعالى- المجلد الأول صـ(142) وقع على عيني كلمات تكتب بما الذهب، فقلت في نفسي لو نقلتها لعلَّ الله ينفع بها المتكلم والسامع، يقول ابن القيم-رحمه الله-: العلم صناعة القلب وشغله فما لم تتفرغ لصناعته وشغله لم تنلها، وله وجهة واحدة، فإذا وجهت إلى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم، ومن لم يغلب لذة إدراكه العلم وشهوته مع لذة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجة العلم أبداً، فإذا صارت شهوته في العلم ولذته في كل إدراكه رجي له أن يكون من جملة أهله انتهى كلامه. وفي هذا الكتاب قد أفاض المؤلف في ذكر فضل العلم والعلماء، وبين الفرق بين صاحب العلم والمال.

وفي الأخير أقول: لقد كان العلماء يتسابقون ويحرصون على جمع العلم وتحصيله كأشد من حرصنا على جمع الدينار والدرهم؛ قال ابن أبي حاتم سمعت المزني يقول: قيل للشافعي كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف -أي بالكلمة- مما لم أسمعه فتود أعضائي لو أن لها أسماعا تتنعم به ما تنعمت به الآذان. فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع الممنوع في بلوغ لذته للمال، فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره1. وقد صنف العلماء كتباً في فضل العلم وأهله وآداب العالم والمتعلم، وخصص بعضهم لذلك فصولاً وأبواباً من مصنفاتهم. والله نسأل أن يوفقنا لحفظ الكتاب و السنة، والعمل بهما، والدعوة إليهما، والصبر على الأذى فيهما.


1 – توالي التأسيس صـ(106).