ذهب الركب وأنت غافل

 

 

ذهب الركب وأنت غافل!

الحمد لله مستحق الحمد والثناء، والصلاة والسلام على سيد الأولياء وخاتم الأنبياء،وعلى آله وصحبه الأتقياء، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ   بِمَنْكِبِي فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.1

أخي:

إن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان فاز في هذا الامتحان من فاز وخسر من خسر، فيا سعادة الفائزين، ويا شقاء الخاسرين البطَّالين المقصرين!

وانظر إلى حال سلفك الصالح -رضي الله عنهم- من الصحابة والتابعين وعلماء الإسلام العاملين، كيف كانت سيرتهم مع ربهم، كانوا يقظين حذرين، كأن العدو يفجؤهم، تركوا الأمن من مكر الله، وشغلوا نفوسهم بالزاد للسفر الطويل، وهم مع كل ذلك الجد والعمل خائفون وجلون من ربهم ومن سوء العاقبة!

تالله! لقد سبق القومُ السعاةَ وهم على ظهور الفرش نائمون، وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون.

من لي بمثل سيرك المدلَّل تمشي رويداً وتجي في الأول

أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم: حي على الفلاح، وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضا والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يَحمد القوم السرى عند الصباح.

 

حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا فحيَّ هلا إن كنت ذا همة فقد

 

وقـل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عُدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زاداً إليهم وسر على طريق الهدى والفقر تصبح واصلا
وأحيِ بذكراهم سراك إذا ونت ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها أمامك ورد الوصل فابغ المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحي على واد الأراك فقِل به عساك تراهم فيه إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عند معرف الـ أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن كفت فمتى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن بقربهم منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
فدعها رسوماً دارسات فما بها مقيلٌ فجاوزها فليست منازلا
رسوم عفت يفنى بها الخلق كم بها قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي عليه سرى وفد المحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا

 

 

أول نَقْدة من أثمان المحبة بذل الروح، فما للمفلس الجبان البخيل وسومها!

بدم المحب يباع وصلهم فمن الذي يبتاع بالثمن

تالله ما هزلت الجنة فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون.

لقد أقيمت للعرض في سوق: مَن يزيد! فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس!

فتأخر البطَّالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمناً، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}2.

لما كثر المدَّعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخليُّ حُرْقة الشجيِّ3، فتنوَّع المدَّعون في الشهود فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}4.

فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية:   {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}5.

فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلمُّوا إلى بيعة: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}6.

فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأناً، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك.

فلما تم العقد وسلَّموا المبيع قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معاً، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}7.8

أخي:

ليس للعابدين مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحبين قرار إلا يوم المزيد، فمثِّل لقلبك الاستراحة تحت شجرة طوبى يهن عليك النصب، واستحضر يوم المزيد يهن عليك ما تتحمل من أجله.

كنوز الجواهر مودعة في مصر الليل فتتبع آثار المحبين لعلك تظفر بكنز!

أنت طفل في حِجر العادة مشدود بقماط الهوى فما لك ولمزاحمة الرجال!

أين أنت والمحبة وأنت أسير الحبَّة؟

تمسَّكت بالدنيا تمسك الرضيع بالظئر والقوم ما أعاروها الطرف!

أُف لبدوي لا يطربه ذكر حاجر!

انقسم الصالحون عند السباق فمنهم من أخذه القلق فكان يقول: ويل لي إن لم يغفرها، أنا أمضي إلى النار أو يغفر، ومنهم من غلبه الرجاء كبلال الحبشي كانت زوجته تقول: واحزناه! وهو يقول: واطرباه، غداً ألقي الأحبة محمداً وحزبه.

واهاً لبلال علم أن الإمام لا ينسى المؤذن!

اشتغلْ به في الحياة يكفك ما بعد الموت.

دق كؤوس الرحيل فسار الركب وتأهبوا للمسير، وعُكمت9 أحمال الزاد، وسار رفقة المجدين وأنت في الرَّقْدة الأولى بعد! كيف تطيق السهر مع الشِّيع، أم كيف تزاحم أهل العزائم بمناكب الكسل!

هيهات ما وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السَّرى، ولا عبروا إلى مقر الراحة إلا على جسر التعب!

وأطيب الأرض ما للقلب فيه هوى سم الخياط مع المحبوب ميدان

أخي:

 

لو رأيت أهل القبور في وثاق الأسر فلا يستطيعون الحركة إلى نجاة، وحيل بينهم وبين ما يشتهون!

يا منفقاً بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه، ليس في أعدائك أشد شراً عليك منك!

ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه10

تقدم الركب وفاتك الدليل فاللحاق اللحاق والرحيل الرحيل، وكن على حذر! واعتصم بالله واستعن به وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.

حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.


1– رواه البخاري في الصحيح.

2– (54) سورة المائدة.

3– الخلي هو الفارغ الذي لا هَمَّ له، والشجي هو المهموم المحترق المحزون. للفائدة راجع: (لسان العرب: 14/422). (شجا).

4– (31) سورة آل عمران.

5– (54) سورة المائدة.

6– (111) سورة التوبة.

7– (169-170) سورة آل عمران.

8– مدارج السالكين لابن القيم (3/ 7-9).

9– أي شدت تلك الأحمال على الجمال.

10– مدارج السالكين (3/ 735).