كل يوم هو في شأن

كل يوم هو في شأن

كل يوم هو في شأن

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:وقفة نقفها مع آية من كتاب الله، نتدبر فيها، ونأخذ العظة والعبرة منها، ونتأمل ما قاله العلماء فيها؛ يقول الله –تبارك وتعالى-: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (29) سورة الرحمن. في هذه الآية أسرار عجيبة، وغرائب فريدة؛ لأنها تشير إلى أسماء حسنى، وصفات عليا اتصف بها العلي الأعلى؛ فهو سبحانه: يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيران، ويغيث لهفان، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور: لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه.

قلوب العباد ونواصيهم بيده، وأزِمَّة الأمور معقودة بقضائه وقدره، الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، يقبض سمواته كلها بيده الكريمة، والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئاً، وأنا الذي أعيدها كما بدأتها، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا حاجة يسألها أن يعطيها، لو أنّ أهل سمواته وأهل أرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو أن أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه وإنسهم وجنهم وحيهم وميتهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلاً منهم ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، ولو أنّ أشجار الأرض كلها من حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا أقلامٌ والبحر -وراءه سبعة أبحر تمده من بعده- مدادٌ فكتب بتلك الأقلام، وذلك المداد لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلمات الخالق -تبارك وتعالى-، وكيف تفنى كلماته -عز وجل- وهي لا بداية لها ولا نهاية، والمخلوق له بداية ونهاية، فهو أحق بالفناء والنفاد؟

هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس دونه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء -تبارك وتعالى-، أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأحق من حُمد، وأولى من شُكر، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم، حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته ومنعه عن حكمته وموالاته عن إحسانه ورحمته.

ما للعباد عليه حق واجب *** كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا *** فبفضله وهو الكريم الواسع

وهو الملك لا شريك له، والفرد فلا ندّ له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له ولا صاحبة، والعلي فلا شبيه له، ولا سمي له، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، وكل ظل قالص إلا ظله، وكل فضله منقطع إلا فضله، لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيتجاوز ويغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام؛ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}1. سورة يــس(82).

فلله الحمد أولاً وأخراً، ظاهراً وباطناً.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين..


 


1 الوابل الصيب من الكلم الطيب(72) ابن القيم. الناشر: دار الكتاب العربي- بيروت. الطبعة الأولى (ذ1405 – 1985). تحقيق: محمد عبد الرحمن عوض.