لماذا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم؟
من أول الأعمال التي قام بها النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما وصل إلى المدينة هي بناء المسجد، وسنقف مع هذا الحدث ولكن بعد أن نذكر القصة باختصار:
قال ابن القيم – رحمه الله – وهو يحكي دخول النبي – صلى الله عليه وسلم -المدينة: "فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فنزل على كلثوم بن الهدم، فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس بعد النبوة، فلما كان يوم الجمعة؛ ركب بأمر الله له، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، ثم ركب فأخذوا بخطام راحلته… إلى أن قال… بركت ناقة النبي – صلى الله عليه وسلم – موضع مسجده وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربداً لسهل وسهيل – غلامين يتيمين من الأنصار كانا في حجر أسعد بن زرارة -، فساوم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الغلامين بالمربد؛ ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله!! فأبى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فابتاعه منهما بعشرة دنانير"1، لنتجول بأفكارنا ونجيب عن هذا السؤال: لماذا بدأ به النبي – صلى الله عليه وسلم -؟
1– لأن المسجد هو مركز الدولة: فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أسس في المدينة الدولة الإسلامية، وجعل أول أساس تقوم عليه هذه الدولة هو المسجد؛ لنعلم بوضوح أن الحكم لله قال – تعالى-:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}2، وأن الله بيده أمر العباد، وهو أعلم بما يصلح حالهم، فلن يكون النصر والتمكين إذا تركنا هذا الدين {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}3.
2– لأن الرجال الذين تقوم بهم الدولة الإسلامية، وينتشر بهم هذا الدين؛ هم أولئك الذين تربوا في المساجد قال – تعالى-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}4، وقال – جل وعلا -: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}5، نعم بهم تقوم الأمم إذا كانوا من أمثال أبي عبيدة، فعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال لأصحابه: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهباً؛ أنفقه في سبيل الله، ثم قال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً؛ فأنفقه في سبيل الله وأتصدق به، فقال عمر: تمنوا!! فقالوا: ما ندري ما نتمنى يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أنا أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان (أحسب أنه قال: أستعين بهم على أمور المسلمين)"6.
3– لأن القلوب التي عانت من ظلام الاعتقاد، والنفوس التي كانت تسيرها العادات الجاهلية؛ لابد أن تتعرض للقرآن في اليوم أكثر من مرة، حتى تتهذب وتتزكى، فيحصل عندهم الانقياد والتسليم، يدخلون المسجد فيسمعون كلام الله فيقولون: سمعنا وأطعنا!
يا سبحان الله! لا قوة سلاح أخضعتهم، ولا سيطرة عسكرية قادتهم، إنما سمعوا قول الله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }7.
4– لأن الصلة بالله – عز وجل – هي الطريق إلى العلو في الدنيا والآخرة.
5– لأنه لا بد من توفير كل ما يحتاجه المجتمع من مراكز تعليم، ومراكز عسكرية، ومراكز تناقش القضايا الاجتماعية، وهذا وغيره كان موجوداً في المسجد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أسس مسجده المبارك على التقوى: ففيه الصلاة والقراءة والذكر، وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات، وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم"8.
6– لأن المسلم لا بد أن يبحث عن بيئة يستطيع أن يعبد الله فيها بأمان واطمئنان.
7– لأنه لا بد من شكر الله على النعم، والشكر قولي وفعلي، فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم – لما رأى ما أنعم الله عليه بالمدينة المنورة؛ بناء المسجد ليقوم شاكراً لله – عز وجل -.
8– لكي يعلم جميع الناس أن المسلمين يجمعهم التوحيد، فبه يكون الولاء، وعليه يكون البراء.
فلتكن أهدافنا هي أهداف النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومقاصدنا مقاصده، ونسأل من الله أن يرزقنا اتِّباعه، والعمل بسنته، والسير على خطاه، والاهتداء بهداه.
والحمد لله رب العالمين.