تنبيه الناس باغتنام الأوقات
الحمد لله الكريم الوهاب، منَّ علينا بجميع النعم، القائل في كتابه الكريم: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (سورة النحل:18)، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الكرام، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
من المعلوم لدى الناس أن الوقت أندر الموارد وأغلاها، ولو قيل: الوقت من ذهب؛ فإن هذا في الحقيقة احتقار لقيمة الوقت، فهو أغلى من الذهب بكثير، وذلك لأن الذهب إذا فُقد يمكن تعويضه، أما الوقت فلا يمكن تعويض لحظة منه ولو جُمع له كل ذهب الدنيا، وإذا كان الوقت بهذه القيمة الغالية فإنه ينبغي للإمام أن يسعى جاهداً في تنبيه الناس لاغتنام هذه الأوقات، وتحذيرهم أن تضيع سداً وهملاً، خاصة في المواسم المباركة كيوم الجمعة، وفضل التبكير إلى الصلاة فيها، وأن فيه ساعة مستجابة لحديث عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ ذكر يوم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها رواه البخاري برقم (883)، وبرقم (5921)؛ ومسلم برقم (1406)، ويحث الناس إلى قيام الليل وفضله، وأن الدعاء فيه مستجاب، وأن الله – تبارك وتعالى – ينزل في الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من داع فأقبله، هل من مستغفر فأغفر له فعن جابر أن رسول الله ﷺ قال: إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه رواه مسلم برقم(1260)، وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ينزل ربنا – تبارك وتعالى – كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له رواه البخاري برقم (1077) ورقم (6940)؛ ومسلم برقم (1261).
ويحث الناس على اغتنام شهر رمضان الكريم فهو أفضل الشهور على الإطلاق، وفيه الصفقة الرابحة، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم، ولله – تبارك وتعالى – في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النار، فحري بكل مسلم أن يحسن استغلال كل دقيقة بل كل لحظة من لحظات هذا الشهر الكريم؛ بحيث لا تضيع عليه هملاً، فشهر رمضان من قامه وصامه إيماناً واحتساباً غفر الله – تبارك وتعالى – له ما تقدم من ذنبه لحديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري برقم (37) ورقم (1905)؛ ومسلم برقم (759)، وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا رواه مسلم برقم (118)، وروي عنه بلفظ: بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة رواه مسلم برقم (2947).
وينافس للوصول إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، والوقت سرعان ما ينصرم قال العلامة ابن القيم – رحمه الله -: “فإن الوقت وحي التقضي أي: سريع الانقضاء، كما تقول العرب الوحا الوحا، العجل العجل، والوحي الإعلام في خفاء وسرعة، ويقال: جاء فلان وحياً أي: مجيئاً سريعاً، فالوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد، وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ (سورة سبأ:52)، ومنع مما يحبه ويرتضيه، وعلم أن ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه، وحيل بينه وبين ما يشتهيه
فيــــــــــا حسرات ما إلى رد مثلهــــــــــــا | سبيل ولو ردت لهان التحسر |
هي الشهوات اللاء كانت تحولت | إلى حسرات حين عز التصبر |
فلو أنها ردت بصبر وقـــــــــــــــــــــوة | تحولن لذات وذو اللب يبصر”1 |
ينبه الناس إلى اغتنام عشر ذي الحجة، وبيان فضلها لهم، وبيان فضل يوم عرفة، وحث الناس على صيامها، واغتنام الوقت فيها، وحث الناس على صيام يوم التاسع والعاشر من محرم، ويحث من كان مستطيعاً على المبادرة إلى الركن الخامس ألا وهو الحج فهو سبب في دخول الجنة.
وعليك أخي في الله (الإمام) أن تستشعر أن من دل على خير فله مثل أجر فاعله، ولك في السلف أسوة حسنة فقد كانوا يحثون على اغتنام الأوقات فقد قال الإمام الحافظ ابن رجب – رحمه الله – في كتابه جامع العلوم والحكم: “قال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وقال: ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، حتى يسلمانك إلى الآخرة”.
قال داود الطائي: “إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك”.
وكتب بعض السلف إلى أخ له: “يا أخي يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك فليس بكار عليك
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر | ولا بد من زاد لكل مسافر |
ولا بد للإنسان من حمل عدة | ولا سيما إن خاف صولة قاهر |
قال بعض الحكماء: “كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته”.
وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي، وفي هذا المعنى قال بعضهم: “وإن المرء قد سار ستين حجة إلى منهل من ورده لقريب”، قال بعض الحكماء: “من كانت الليالي والأيام مطياه؛ سارت به وإن لم يسر”، وفي هذا قال بعضهم:
وما هذه الأيـــــــــــــام إلا مراحل | يحث بها داع إلى الموت قاصد |
وأعجب شيء لو تأملت أنها | منـــــــــــــــازل تطوى والمسافر قاعد2 |
وقد أنشد بعض السلف:
إنا لنفرح بالأيـــــــــــــــــــــام نقطعهـــــــــــــــــا | وكل يوم مضى يدني من الأجل |
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً | فإنما الربح والخسران بالعمل |
وقال الحافظ ابن رجب – رحمه الله -: “قال أبو حازم: “إن بضاعة الآخرة كاسدة، ويوشك أن تنفق، فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة، والأسف عليها، يتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية”3
اغتنم في الفراغ فضل ركــــــــــــوع | فعسى أن يكون موتك بغتة |
كم صحيح رأيت من غير سقم | ذهبت نفسه الصحيحة فلتة |
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمُّن علينا بطاعته ورضاه، وأن يوفقنا لاغتنام أوقاتنا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
1 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3 /50) للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي تحقيق : محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي – بيروت، ط2، سنة النشر 1393هـ – 1973م.