رحمة رسول الله عليه الصلاة والسلام

 

 

رحمة رسول الله عليه الصلاة والسلام

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

فإن الله تبارك وتعالى بعث للناس رسولاً رحيماً، قضى حياته كلها في إصلاح الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك إلى نور الإسلام، واتخذ في ذلك وسائل عدة، وطرقاً كثيرة،وقد كانت الرحمة أعظم الوسائل المحمدية في الدعوة إلى الله عز وجل.

وقد قال الله عنه في كتابه العظيم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(128) سورة التوبة فوصفه الله تعالى بالرحمة بأمته والحرص على هدايتها ونفعها.

وذكر الله تعالى في كتابه أنه لولا رحمته التي اتصف بها لما قبل دعوته أحد ولذهب الناس من بين يديه وانفضوا عنه، فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران.

وقال عنه   في موضع آخر من كتابه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(107) سورة الأنبياء، فبين تعالى أنه رحمة لكل الناس وليس لأمته خاصة. وهذا ما ظهر منه  حتى في حروبه مع أعدائه، فقد كان من تمام رحمته أن أوصى أصحابه   في حروبهم بعدم قتل الأطفال ومن لا مشاركة لهم في الحرب من الشيوخ الكبار والنساء اللاتي لم يشاركن في قتال المسلمين. وكان يوصيهم بتعليم الناس وإقامة الحجة عليهم قبل الشروع في معاقبتهم، والتدرج في الشروط المشروطة عليهم، فلم يكن  يحب سفك الدماء ولا التجبر على الناس كما يفعل الجبابرة الذين يتعطشون لدماء الناس وقهرهم، بل كان يسعى إلى الإقناع وإقامة الحجة على المخالفين له في الملة، ولم يكن يقاتل إلا من وقف في طريق الإسلام متجبراً متعالياً، أو من كان معتدياً وهذا ما يفعله كل مخلوق إذا اعتدي عليه. وكان ينهى أصحابه عن التمثيل

بالمقتول أو الغدر بالناس، وقد ثبت في صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله   إذا أمَّر أمير على جيش أو سرية أوصاه خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً) وفي رواية عند أحمد: (ولا أصحاب الصوامع)وعند الطبراني (ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً)، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين،

وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ماللمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه،

ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا).1

وانظر إلى دعاء النبي   لأهل دوس،حينما طلب أحد أصحابه أن يدعو عليهم، فما كان من صاحب الخلق العظيم والقلب الرحيم والهمة التي بلغت عنان السماء إلا أن دعا لهم، عن أبي هريرة   قال:قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله   فقال: يا رسول الله إن دوساً قد عصت وأبت، فادع الله عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال: (اللهم اهد دوساً وأتِ بهم).2

قال الكرماني رحمه الله: “فإن قلت هم طلبوا الدعاء عليهم ورسول الله   دعا لهم! قلت: هذا من كمال خلقه العظيم ورحمته بالعالمين”.

وقد كان النبي   رحيماً رفيقاً بالجهال والأعراب الذين يتصفون بالجفاء والغلظة، ويجهلون كثيرا من أحكام الإسلام، فقد روى مسلم عن أنس بن مالك   أنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله   إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد! فقال أصحاب رسول الله  : مه مه! قال: قال رسول الله  : (لا تزرموه،دعوه) (لا تزرموه أي لا تقطعوه) فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله   دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)،أو كما قال رسول الله   قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه.

وهكذا كان النبي   رحيماً بالأطفال يداعبهم ويلاعبهم وكان يسلم عليهم، فعن أبي هريرة   قال: قبَّل رسول الله   الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً ! فنظر إليه رسول الله   ثم قال: (من لا يَرحم لا يُرحم).3

وعن عبد الله بن شداد عن أبيه   قال: خرج علينا رسول الله   في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً فتقدم رسول الله   فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله   وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله   الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك؟ قال: (كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته).4سبحانك ربي من هذا الخلق العظيم الذي حلَّيت به نبيك وخليلك  .

وبلغت رحمة النبي   إلى الأم التي تصلي في مسجده وطفلها يبكي، فعن أنس بن مالك  أن النبي   قال: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه).5

وامتدت رحمته   إلى من بعده من أمته، فدعا لمن يسر ورفق بأمته ودعا على من شق وشدد، فقال  : (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به).6

ولم تكن رحمته   بمنأى عن الحيوان البهيم، بل كان رحيماً حتى بالحيوانات والطيور، فقد ثبت في الحديث عن عبد الله بن جعفر   قال:

أردفني رسول الله   ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثاً لا أخبر به أحداً أبداً، وكان رسول الله   أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، فدخل يوماً حائطاً من حيطان الأنصار، فإذا جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه، قال بهز وعفان: فلما رأى ال  حنَّ وذرفت عيناه، فمسح رسول الله   سراته وذفراه فسكن، فقال: (من صاحب الجمل؟) فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: (أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله؟! إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه).7 تدئبه: أي تتعبه في العمل.

وكذلك الطيور لم تفتها رحمة المصطفى  ، فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: كنا مع رسول الله   في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة (أي طائر) معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش (أي ترفرف) فجاء النبي   فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها) ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: (من حرق هذه؟) قلنا: نحن، قال: (إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار).8

وعن سهل بن الحنظلية قال: مر رسول الله   ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة).9 فما أحوج الناس إلى مثل هذه النصائح في هذا الزمان الذي أُهمل فيه الإنسان، فضلاً عن الحيوان البهيم المعجم..!

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كنت على بعير فيه صعوبة فجعلت أضربه، فقال النبي  : (عليك بالرفق، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).10

ومن تمام رحمته   بأمته أنه نهاهم عن أعمال لو عملوها لكان في ذلك مشقة لهم، ولو فرضت عليهم لما أطاقوها، فإن النبي   كان يواصل صومه ولا يفطر اليومين والثلاثة، فأراد أصحابه فعل ذلك فنهاهم شفقة عليهم ورحمة بهم، كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر   أن النبي   واصل فواصل الناس، فشق عليهم فنهاهم قالوا: إنك تواصل، قال: (لست كهيئتكم إني أظل أطعم وأسقى).

وفي البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله   خرج ذات ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة

الثالثة، فخرج رسول الله   فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: (أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها).

فهذه مقتطفات من السيرة العطرة التي كان يتحلى بها النبي ، وهي غيض من فيض، وشعرة من ظهر جمل، وذرة من رمال صحراء، إنها قبسات من حياة المعصوم المكرم  ، إنها حلل وأي حلل؟ وعقود من الزبرجد واللؤلؤ،

وما تساوي تلك الجواهر العظيمة بجانب عظمة النبي الكريم؟ إن الله تعالى قد جمع لنبيه صفات الأنبياء والعظماء في التاريخ، فكان كما قال الشاعر:

ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

إن الرحمة صفة دائمة في حياة النبي   لم تخل منها حياته أبداً منذ أن بعث نبياً رسولاً إلى أن توفاه الله ​​​​​​​ ، وإن استقصاءها في وريقات يسيرة لهو من إساءة الأدب معه ، فأستغفر الله العظيم، ولكن النماذج تدل على ما تحتها من كرم أصيل، ومعدن نقي صاف.

فاللهم صل على عبدك ونبيك محمد المصطفى المختار،وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


1 رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه واللفظ له، والترمذي وابن ماجه في سننهما، والطبراني في المعجم الكبير والأوسط. وغيرهم.

2 رواه البخاري ومسلم.

3 رواه البخاري ومسلم.

4 رواه أحمد والنسائي واللفظ له، وهو حديث صحيح.

5 رواه البخاري ومسلم.

6 رواه مسلم.

7 رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث صحيح.

8 رواه أبو داود والحاكم، وهو حديث صحيح.

9 رواه أبو داود وابن خزيمة، وهو حديث صحيح.

10 رواه مسلم، والبخاري في الأدب المفرد.