الحرب على اللغة العربية الفصحى(2-2)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أمابعد:
فقد سبق الكلام حول الهجمة الكبيرة على اللغة العربية الفصحى لغة القرآن الكريم وذلك الهجوم تمثل في عدة محاور سبق الحديث عن بعضها، وبقي في هذا الحلقة ذكر بقية تلك المحاور:
المحور الثالث: الدعوة لإصلاح اللغة العربية: لو كانت تلك الدعوات قُصد منها إصلاحٌ وإيضاح كما فعل المتقدمون منهم وكثيرٌ من المحدثين لكان ذلك صواباً، ولكنَّ النيَّة السيئةَ هي مطيَّةُ القوم، ولكي يَصِلُوا إلى مرادهم وصموا العربية بالجمود والتعقيد والصعوبة، وكل من ذكرنا سابقاً وكثير من مثلهم قالوا ذلك، وكانت تلك الدعوات غطاءاً للهدم؛ فمنهم من دعا إلى إلغاء الإعراب مثل (قاسم أمين) عام 19121؛
حيث دعا إلى تسكين أواخر الكلمات عوضاً عن الإعراب قال (سلامة موسى)2: والتأفف من اللغة الفصحى التي نكتب بها ليس حديثاً؛ إذ يرجع إلى ما قبل ثلاثين عاماً حين نعى (قاسم أمين) على اللغة العربية صعوبتها، وقال كلمته المشهورة: “إن الأوروبي يقرأ لكي يفهم، ونحن نفهم لكي نقرأ” فانظر إلى ترابط الهدم؛ إذ يتحدث عن إفساد المرأة، ثم يدعو إلى إفساد العربية!!.
ولمثل دعوته في ترك الإعراب دعا (عبد العزيز فهمي)3 وتبعهما كثيرون مثل: (يوسف الخال)4
الذي دعا إلى تحطيم بنيان اللغة، والتخلص من العبء الثقيل وهو الإعراب، وكثيرون سواه دعوا إلى ذلك ومن آخرهم أستاذ بجامعة الملك سعود بكلية الآداب عندما عرفتُ ما يدعو إليه من إلغاء الإعراب5 تذكرت ما كان يقوله لنا ونحن طلبة عنده من أنَّ عيبه عدم استطاعته إيصال ما يريد لطلابه لضعف لغته، وكانت لغته ضعيفة، ولسانه مطبوع على العامية لا يستطيع الفكاك منها.
ومنهم من دعا إلى إصلاح قواعد الكتابة مثل: (أحمد لطفي السيد)6 الذي يقول: إن سبب تراجع الأمة العربية تمسكها بالتشديد والتنوين، ثم دعا إلى قواعدَ جديدةٍ ابتكرها مزهواً بذلك كأنه أبو الأسود أو الخليل – رحمهما الله -.!!
كما كان لـ (أنستاس الكرملي) رأي ماكر في إصلاح الكتابة العربية دسَّ فيه حُرُوفاً لاتينية أوضحناه آنفاً، أما (أنيس فريحة) فقد أصدر عام 1966م كتاباً أسماهُ: (في اللغة العربية وبعض مشكلاتها)7 أهداه إلى كل معلِّم يدرّسُ العربية رنَّقه بحديثٍ في أوله عن مزايا العربية، ثم رنَّقهُ8 بوصم العربية بالعجز عن اللحاق بالعلوم والفنون، وجعل هجاءها من مشاكلها، ودعا إلى تيسير ذلك، وأخذ يُحيي اقتراحاتٍ بائدةً لإصلاح ذلك.
كما تأفف من مشكلات القواعد النحوية، واشتكى من الصرف، ودعا في ثناياه إلى العامية! فماذا أبقى فريحة الخوري!؟ وزعم (مارون غصن) وهو ممن يُدعون بـ (الأبّ) أنَّ اللغة العربية ضعيفة في كل شيءٍ؛ ولذلك هبَّ مسارعاً لتسهيل هذه اللغة فوضع كتاباً اسماه: (نحو عربية ميسرة)9 عام 1955م، وكتب مقالاً عنوانه: (هذا الصرف وهذا النحو أمَا لهذا الليل من آخر؟) سخِر فيه من قواعد العربية، ودعا إلى تركه10.
أما صاحب فجر الإسلام (أحمد أمين) فقد دعا إلى إصلاحٍ في متن العربية11 وانطلقت دعوته تلك من منبر مجمع اللغة العربية؛ فهو أحد أعضائه، وكل من تحدث عن الإصلاح يلوك مقولة ملْكية الجميع للغة، ويتهمون كل مدافع عنها بأنه ممن يدَّعِي مُلْكَ اللغة؛ كما ذكرنا قول طه حسين آنفاً.
المحور الرابع: إفسادُ الذَّوقِ السَّليمِ:
لما عجز المستعمر وعجز ربائبه وأذنابه عن فرض العامية، وكَلّت أقلامُهم في الدعوة إلى الحروف اللاتينية، وماتت تجاربهم في مهدِها، ولم يستطيعوا جرَّ العربِ لتحطيمِ العربيَّةِ بدعوى الإصلاحِ؛ عند ذلك لجؤوا إلى إفساد الذوق السليم لكي يعدمَ العربي ذوقه الذي اعتاد عليه في الاستمتاع بما كتب به كتابه الكريم، وسنة نبيه ﷺ ، وتراثه الأصيل، وحاضرهُ الزاخر.
فانفتح الباب على كل عربي قارئ للآداب بمذاهب لا يعرف منها إلا اسمها،سلخت من بلاد الغرب، وزُجَّ بها في ساحة العربيةِ، وطُوِّعت وسائل الإعلام المختلفة لكي تمتلئ بهذه المذاهب التي تهدمُ الدينَ، وتحاربُ العربيةَ، وتُفِسدُ الأخلاق.
وترجمت كتب النقد الغربي لكي يُطبَّق على أدبنا، وأصبح لزاماً على الدَّارس في كثيرٍ من أقسام العربية في الجامعات أنْ يدرس هذا الأدبَ وهذا النَّقدَ، ولقد درستُ النقد الأدبي الغربي في المرحلةِ الجامعيةِ ولكنهم سمَّوه: (النقد الأدبي الحديث)!.
ودُعم كل ناعق بهذه الخزعبلات فامتلأت الجرائد والمجلات وأرفف المكتبات بها، وخرج علينا في جميع وسائل الإعلام دعاة الحداثة وهم شرذمة قليلة، ودعوا إلى تحطيم الشعر؛ يقول (لويس عوض)12: (حطِّمُوا الشِّعر!! لقد مات الشعر العربي عام 1933م، مات بموت أحمد شوقي!)، فصار الشِّعرُ طلاسم وأحاجي لا يفهمها حتى كاتبها؛ لكي يعدم الشاب النماذج التي يحاكيها.
يقول الدكتور (عمر موسى باشا)13: إنَّ مفهوم الحداثة في الأدبِ يعني حريَّة الأديبِ فيما يختصُّ باستخدام اللغة، وأنَّ للأديب الحرية الكاملة في استخدامِ اللغةِ العاميَّةِ المحليةِ، ونحن نعترضُ على إطلاق هذه الحرِّيةِ ما دامت تُصدِّع صرحَ اللغة العربية.
كما شُجعت الآداب الشعبية لإفساد الذوق وحرف الناس عن أدبهم الفصيح، ولكي تسيطر العامية على الناس يقول الدكتور: (محمد محمد حسين) – رحمه الله – عن هذا الأدب: هو امتداد للدعوة إلى استبدال اللهجات المحلِّية العامِّية مكان اللغة الفصحى14، وأجزم أولاً أنَّ تدوينَها والاهتمامَ بها ليتعلَّقَ الناس ويفسدَ ذوقهم ويعتادوها، ويعدموا النموذج الأصيل يقول أنور الجندي15: حاول الداعون بها أن يَوجِّهوا العنايةَ إلى الجمالِ الفنِّي الذي تمثلهُ الأمثالُ والقصصُ والأغاني التي يتداولها العامة، وقد دوَّنوا ما لم يكن مدوناً، فلما برزت الدعوة إلى العناية بالفنون الشعبية تمسَّح الداعون بهذه الدعوة بين العرب زاعمين أنَّ إهمال هذا اللون من الفنون ترفُّعٌ عن العناية بالطبقاتِ الفقيرةِ الكادحةِ، وما يتصل بها من شؤون.
الخاتمة: بعد أن رصدنا رصداً سريعاً جوانب من هذه الهجمة نستخلص منها:
1- كانت بدايةُ الهجمة بالمستشرقين تحت ظلال المستعمر، ثم نقلت إلى بني جلدتنا؛ ليكون لما يقولون قبول أكثر.
2- جُلُّ من هاجم العربية بأي شكل هم من المستشرقين وغير المسلمين مثل: سلامة موسى سلامة، ولويس عوض، وعيسى معلوف، وابنه إسكندر، وروفائيل نخلة، ومارون غصن، وأنيس فريحة، والكرملي وغيرهم، ومن هاجم العربية من غيرهم فهو من المارقين الذين تحلَّلوا من الإسلام مثل: قاسم أمين، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين وأشباههم.
3- اتخذ الهجومُ التدرجَ دعوةً إلى العامية، ثم الكتابة بالحرف الحرف اللاتيني؛ فلما لم ينجحوا في ذلك دَعَوْا إلى إصلاح العربية؛ والقصدُ هو الإفساد؛ فلما سقطت دعوتهم فُتِحَ البابُ لإفساد الذوق السليم، وشُجعت الآداب العامية.
4- جوبهت تلك الدعوات الهدامة بردود ومعارك كتابية أرجعتها خائبة، كما أعرض العامة عنها، ولم يعيروها أذناً صاغية، وكان تطبيقها حِكراً على الناعقين بها!.
5- ساعدت تلك الهجمة في بث الرُّوح والحياة في نُفُوس أهل العربيَّةِ، فخرج شعراء كبار مثل: البارودي، وشوقي، وحافظ، والرُّصافي، وكُتَّاب كبار كالرافعي، والمنفلوطي، وباكثير، وغيرهم.(16)
فينبغي للمسلمين أن يتفهموا هذه الحرب الشرسة المعلنة ضد اللغة العربية الفصحى لغة القرآن، وأن يحافظوا عليها من خلال تعلمها والنطق بها، وأن تكون لغة رسمية في كل البلدان العربية، وأن يحاربوا الدعوات التي يتبناها أقوام مستأجرون من بني جلدتنا ومضمون تلك الدعوات هو استبدال العربية الفصحى بالعاميات المنتشرة في كل بلد ووطن أو التركيز البالغ على اللغات الأجنبية وإهمال لغة القرآن العزيز، وليعلم كل عربي مسلم أن اللغة العربية الفصحى هي جزء من الحضارة التي يواجه بها العالم، وأنها قبل ذلك لغة القرآن، وبها يفهم مراد الله ومراد رسوله ﷺ ، وكلما زاد التعمق فيها زاد الفهم والإدراك للأمر الإلهي الذي خلقنا من أجله.
والله الهادي والموفق.
1– الاتجاهات الوطنية ، ج2 ، 372 ، وتيارات مسمومة ، 273 .
2– الاتجاهات الوطنية ، ج2 ، 372 .
3– مجلة الآداب عدد 1 ، 2 / 1999م ، ص 101.
4– تيارات مسمومة ، 272 .
5– اقرأ ما كتبه د حسن الهويمل في جريدة الرياض بتاريخ ، 3/3/ 1420هـ .
6– الاتجاهات الوطنية ، ج2 ، 369 .
7– طبع أكثر من مرة .
8– رنَّقَه : كدَّره ورَنَقَ بمعنى صفا ، وكدِر ؛ فهو من ألفاظ الأضداد .
9– لماذا يزيفون التاريخ 325.
10– المصدر السابق ، 325 .
11– الاتجاهات الوطنية ، ج2 ، 369 .
12– تيارات مسمومة ، 201 .
13– المصدر السابق ، 272 .
14– المصدر السابق ، 250 .
15– المصدر السابق ، 256 .
16– انظر مجلة البيان العدد (147) ص( 46 وما بعدها).