الترغيب في قيام الليل

الترغيب في قيام الليل

 

الحمد لله المنزه عن الأشباه في الأسماء والأوصاف، القائم بالقسط والحق والإنصاف، خضعت لعزته الأكوان وأقرت عن الاعتراف، وانقادت له القلوب وهي في انقيادها تخاف، كشف للمتقين اليقين فشهدوا، وأقامهم في الليل فسهروا وتهجدوا، وأراهم عيب الدنيا فرفضوها، وزهدوا، وقالوا: نحن أضياف!! أحمده على ستر الخطايا والاقتراف، وأصلي على رسوله محمد الذي أنزل عليه ق، وعلى أتباعه الذين ساروا على الصراط المستقيم بلا ميل ولا انحراف، بل دأبهم التقوى وعن المحارم العفاف، أما بعد:

فإن قيام الليل شريعة ربانية وسنة محكمة نبوية، وخصلة حميدة إسلامية، ومدرسة تربوية إيمانية، وخلوة برب البرية، وروضة هنية ندية، وسعادة نفسية روحية، ونشاط وقوة جسمانية، وشوق وتعلق بالجنان العلية، ودموع وعبرات قلبية، وآهات وزفرات شجية. ومع كل هذه الخصال الحميدة، والصفات المجيدة، التي تميز بها القيام، فإن هذه الشعيرة الجليلة، أعرض عنها أكثر الناس، وفرطوا فيها وقصروا عنها، حتى كادت أن تندرس فيما بيننا، وحتى أوشكت أن تندثر في بيوتنا، فأين عباد الله في هذه الأعصار؟!! وأين رهبان الليل وفرسان النهار؟! وأين قراء القرآن الأبرار؟! وأين المستغفرون بالأسحار؟! وأين المتلذذون بمناجاة اللطيف القهار؟! وأين من يسكبون العبرات في الظلام على الذنوب والأوزار؟! وأين من يتركون فضول المنام ليقفوا بين يدي الملك العلام؟! بانوا والله وكأن القوم ما كانوا:

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً               فقد صاروا أقل من القليل

 

الله تبارك وتعالى يدعوك للقيام:

أخي الحبيب: إن ربك ومولاك وسيدك الجليل العظيم يدعوك ويناديك – وهو الغني عن طاعاتك- إلى القيام بين يديه، واللجوء إليه والتلذذ بمناجاته في ظلام الليل فهلا أجبت نداء السماء؟! وناجيت ربك في الظلماء، لتكون في الدنيا والآخرة من السعداء!!

قال تعالى آمر نبيه وأمته بقيام الليل (( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً)) المزمل 1-3. قال سعد بن هشام بن عامر لعائشة رضي الله عنها: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالت: ألست تقرأ ((يا أيها المزمل)) قلت: بلى، فقالت: إن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة) رواه مسلم.

وقال تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام وأمته تبع له في هذا الخطاب (( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)) الإسراء: 79؟ وقال المولى جل وعلا داعياً لنا للقيام والمناجاة (( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب)) الشرح: 7-8. قال ابن مسعود رضي الله عنه في تأويل هاتين الآيتين: (إذا فرغت من المكتوبة فانصب في قيام الليل) وقد أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن ربنا ومولانا العظيم الجليل مالك الملك يدعونا وينادينا في كل ليلة – وهو الغني عنا سبحانه- إلى مناجاته والقيام بين يديه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟! من ذا الذي يسألني فأعطيه؟! من ذا الذي يستغفر لي فأغفر له؟! فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) رواه مسلم.

الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوك للقيام:

 أيها الإخوة: إن مما يزيدنا تحمساً لقيام الليل، وحرصاً على مناجاة الله تعالى والوقوف بين يديه في ذلك الوقت، أن نعلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم يحثنا على القيام، ويرغبنا فيه فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة في جوف الليل) رواه مسلم. وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) رواه الترمذي وصححه.

وعن بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربه إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد) رواه الترمذي. بل لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرشد من سأله عن أحب أعمال الخير إلى الله يرشده إلى أعمال منها قيام الليل فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخل الجنة ويباعدني من النار؟ فقال: (لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت؟ ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ: ((تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)) الآية16 السجدة )رواه الترمذي.

ولقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم من يواظب على قيام الليل بأنه نعم الرجل وهذه منقبة عظيمة ومزية جسيمة، ينبغي لكل مؤمن أن يحرص عليها: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله أي عبد الله بن عمر- لو كان يصلي من الليل!! قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً)) وفي رواية أنه عليه الصلاة  والسلام قال: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر من الليل)) متفق عليه. قال الحافظ ابن حجر: وشاهد الترجمة قوله (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)) فمقتضاه أن من كان يصلي من الليل يوصف بكونه نعم الرجل).1

أخي الحبيب: تجول في وادي  المتهجدين، وتنقل بين أنات المذنبين وتسبيح المتهجدين وتضرع السائلين!! وأبصرهم فهذا يعاتب نفسه على التقصير! وهذا يتفكر في هول المصير! وهذا يخاف حساب الناقد البصير! وذلك يتعوذ بالله من عذاب يوم عسير!..

لقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر الناس قياماً فعندما رأت عائشة ذلك منه أشفقت عليه من كثرة التعب في القيام فما كان منه إلا أن قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تتفطر قدماه (أي تتشقق) رواه النسائي في سننه. وتأملوا أيها الإخوة قول الله تعالى وهو يصف عباده المتهجدين بالليل: ((كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون)) الذاريات 17-18. قال الحسن البصري عن هذه الآية: ( لا ينامون من الليل إلا أقله، كابدوا قيام الليل).

وقال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا (أي خالفوا) بوناً بعيداً لا نبلغ أعمالهم ثم قرأ ((كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون)) وقال الله تعالى ((أمن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذي يعلمون والذي لا يعلمون)) الزمر: 9.

وما أجمل قول ابن القيم وهو يصف حال السلف الأبرار في قيامهم بالليل، فيقول:

القانتون المخبتون لربهم                 الناطقون بأصدق الأقوال

يحيون ليلهم بطاعة ربهم                        بتلاوة وتضرع وسؤال

وعيونهم تجري بفيض دموعهم          مثل إنهمال الوابل الهطال

في الليل رهبان وعند جهادهم          لعدوهم من أشجع الأبطال

بوجوههم أثر السجود لربهم                   وبها أشعة نـوره المتلالـي

ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم         في سورة الفتح المبين العالي

وبرابع السبع الطوال صفاتهم           قـوم يحبـهم ذوو إدلال

وبراءة والحشر فيها وصفهم                   وبهل أتى وبسورة الأنفال

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف أهل قيام الليل: ألا إن لله عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وأهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونه، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياماً قليلة، لعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم، وأما النهار فعلماء حلماء، بررة أتقياء، كأنهم القداح، ينظر إليهم، ويقول: مرضى! وما بالقوم من مرض، أو خولطوا ولقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.2

وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر في آخر حياته، فلما سلم انفتل عن يمينه (أي انصرف) ثم مكث (أي في مصلاه يذكر الله) كأن عليه كآبه حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح، قلب يده، وقال: (لقد رأيت أثراً من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فما أرى أحداً يشبههم!! والله إن كانوا ليصبحون شعثاً غبراً عفراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، فقد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، فإذا ذكروا الله ما دوا كما تميد الشجر في يوم الريح، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم، والله لكان القوم باتوا غافلين)).3

وقفة مع السلف في قيامهم الليل:

 قال معضد العجلي: لولا ثلاث: ظمأ الهواجر وطول ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله عز وجل ما باليت أن أكون يعسوباً) العيسوب: ذكر النحل).

وقال يزيد الرقاشي: ما أعلم شيئاً أقر لعيون العابدين في الدنيا من التهجد في ظلمة الليل، وما أعلم شيئاً من نعيم الجنة وسرورها، ألذ عند العابدين ولا أقر لعيونهم من النظر إلى ذي الكبرياء العظيم إذا رفعت تلك الحجب وتجلى لهم الكريم.

وقال مسلم العابد: ما يجد المطيعون لله لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم، ولا أحب لهم في الآخرة من عظيم الثواب، وأكبر في صدورهم وألذ من قلوبهم من النظر إلى وجه الله عز وجل.

ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم من أكثر الناس قياماً فهذا ابن مسعود قال عنه علقمة بن قيس: بت ليلة مع ابن مسعود رضي الله عنه فنام أول الليل ثم قام يصلي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل ولا يرجع. وكان ابن مسعود إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوي كدوي النحل. وعن ثور بن يزيد قال: كان معاذ بن جبل رضي الله عنه إذا تهجد من الليل قال: اللهم قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى ترده إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. وهذا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه كان يقوم ثلث الليل، وتقوم امرأته ثلث الليل، ويقوم ابنه ثلث الليل، إذا نام هذا قام هذا!!.

وقام الصحابي الجليل تميم بن أوس الداري رضي الله عنه ليلة بآية واحدة يرددها ويبكي حتى أصبح وهي قوله تعالى: (( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)) الجاثية: 2.

وعن سالم بن عبد الله قال: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه لا ينام الليل (أي يصلي بالليل) وكان يقرأ القرآن في ليله، وقام أبو الدرداء رضي الله عنه ليلة يصلي، فجعل يبكي ويقول في دعائه: اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي!! حتى أصبح، فقالت أم الدرداء له مستغربة. ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق؟!!.

 فرضي الله عن الصحابة أجمعين، وجمعنا بهم مع نبينا الأمين في جنات الخلود والنعيم. وهكذا كان دأب التابعين ومن بعدهم فهذا محمد بن واسع: إذا جنى عليه الليل وقام يصلي لربه؛ يبكي ويقول في بكائه: ويلي من الذنوب قد أحصيت، ومن صحيفة قد ملئت وربى علم ذلك، ولم يخف عليه من ذلك شيء. وكان عامر بن قيس إذا جاء الليل قال: أذهب حر النار النوم!! فما ينام حتى يصبح، وكان إذا جاء الليل يقول لنفسه: من خاف أدلج وعند الصباح يحمد القوم السرى). وقال المعتمر بن سليمان: مكث أبي سليمان التيمي رحمه الله أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً وكان يصلي صلاة الفجر بوضوء عشاء الآخرة) وقال معمر: صلى إلى جنبى سليمان التيمي بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته (تبارك الذي بيده الملك)الملك1) حتى أتى على هذه الآية (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا)(الملك27) فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا، ثم خرجت إلى بيتي فلما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التيمي) في مكانه كما تركته البارحة وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها. وقال أبو إسحاق السبيعي: ذهبت الصلاة مني، وضعفت ورق عظمي إني اليوم (أي وأنا شيخ هرم) أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران، وكان رحمه الله قد ضعف عن القيام فكان لا يقدر أن يقوم إلى الصلاة حتى يقام، فإذا أقاموه فاستتم قائماً قرأ ألف آية وهو قائم. وقام الحسن ذات ليلة يصلي ويردد قوله تعالى: ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها))النحل18) فجعل يرددها حتى أصبح فسئل عن ذلك فقال: إن فيها معتبراً، ما نرفع طرفاً ونرده إلا وقع على نعمة، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر.

أخيراً: نقول اللهم أعنا على قيام الليل ،واجعلنا ممن قلت فيهم (تتجافى جنوبهم عن  المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)(السجدة16) والحمد لله رب العالمين .

 للمزيد يرجع إلى كتاب مختصر قيام الليل للمقريزي، وكتاب رهبان الليل لسيد عفاني، وكتاب كيف تتحمس لقيام الليل لأبي القعقاع محمد بن صالح آل عبد الله وغيرها.


1– فتح الباري 3/9.

2– البيان والنهاية 8/7.

3– حلية الأولياء ج/1.