تكرار الجماعة في المسجد

تكرار الجماعة في المسجد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان .. أما بعد:

فإن مسألة تكرار الجماعة في المسجد من الأمور التي حصل فيها الخلاف بين أهل العلم بين الجواز والمنع، وسنأتي على أقوالهم مع بيان حججهم والراجح من ذلك.. ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وأبو قلابة وأيوب السختياني وابن عون والليث والبتي والثوري وغيرهم إلى المنع من إعادة الجماعة في مسجد له إمام راتب في غير ممر الناس، قالوا: فمن فاتته الجماعة صلى فرداً؛ لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب والعداوة والتهاون في الصلاة مع الإمام؛ ولأنه مسجد له إمام راتب فكره فيه إعادة الجماعة كمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم– ومما استدلوا به حديث (الحسن) قال: كانت الصحابة إذا فاتتهم الجماعة فمنهم من اتبع الجماعات، ومنهم من صلى في مسجده بغير أذان ولا إقامة. وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج ليصلح بين الأنصار فاستخلف عبد الرحمن بن عوف، فرجع بعد ما صلى فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته وجمع أهله فصلى بهم بأذان وإقامة)1 قال السرخسي: فلو كان يجوز إعادة الجماعة في المسجد لما ترك الصلاة في المسجد والصلاة فيه أفضل.2 

وممن قال بهذا القول من المعاصرين الشيخ الألباني حيث قال في تمام المنة3: (وبالجملة فالجمهور على كراهة إعادة الجماعة في المسجد بالشرط السابق، وهو الحق). ومعنى الشرط السابق: أي أن يكون للمسجد إمام راتب، فإن لم يكن له إمام راتب وكان المسجد على ممر الطريق أو نحو ذلك جاز تكرار الجماعة.

القول الثاني: ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وعطاء بن أبي رباح والنخعي والترمذي والبغوي وأهل الظاهر وغيرهم إلى جواز إقامة جماعة ثانية في مسجد قد صلي فيه جماعة. قال الترمذي: (ولا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلي فيه جماعة. وبه يقول أحمد وإسحاق).4

وقال البغوي: (يجوز إقامة الجماعة في مسجد مرتين، وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين).5

وقال ابن حزم: (ومن أتى مسجداً قد صليت فيه صلاة فرض جماعة، بإمام راتب وهو لم يكن صلاها فليصلها في جماعة ويجزئه الأذان الذي أذن فيه قبل، وكذلك الإقامة ولو أعادوا أذاناً وإقامة فحسن، لأنه مأمور بصلاة الجماعة، وأما الأذان والإقامة فإنه لكل من صلى تلك الصلاة في ذلك المسجد ممن شهدها، أو من جاء بعدهما، وهو قول أحمد ابن حنبل وأبي سليمان وغيرهما).6

ومن أظهر ما استدلوا به حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله   أبصر رجلاً يصلي وحــده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه)، فقام رجل فصلى معه.7

فدل على جواز إقامة جماعة ثانية في مسجد قد صلي فيه جماعة.. ومن الأدلة كذلك عموم قوله  : (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) متفق عليه. والجماعة الثانية داخلة في هذا الفضل للعموم، فكانت إقامتها إقامة للجماعة التي دل الحديث على عظيم فضلها، فهي خير من صلاة الإنسان وحده. وغير ذلك من الأدلة.

وبالجواز أفتت اللجنة الدائمة في بلاد الحرمين، حيث ورد على اللجنة السؤال التالي: هل لرجال تأخروا عن الجماعة في المسجد ووجدوا الناس قد صلوا أن يصلوا في المسجد جماعة أخرى أو لا؟ وهل هناك تعارض بين حديث: (من يتصدق على هذا) وبين قول ابن مسعود -رضي الله عنه- أو غيره: (كنا إذا فاتتنا الجماعة أو انتهت الجماعة صلينا فرادى) أو كما قال -رضي الله عنه-؟

فكان جواب اللجنة كما يلي:

من جاء إلى المسجد فوجد الجماعة قد صلوا بإمام راتب أو غير راتب فليصلها جماعة مع مثله ممن فاتتهم الجماعة، أو يتصدق عليه بالصلاة معه بعض من قد صلى، لما رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله   أبصر رجلاً يصلي وحــده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) فقام رجل فصلى معه، ورواه الترمذي عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: جاء رجل وقد صلى رسول الله   فقال: (أيكم يأتجر على هذا)؟ فقام رجل فصلى معه. قال الترمذي: حديث حسن. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي على ذلك، وذكره ابن حزم في المحلى، وأشار إلى تصحيحه.

قال أبو عيسى الترمذي: وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين، قالوا: لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلي فيه جماعة، وبه يقول أحمد وإسحاق.

وقال آخرون: يصلون فرادى، وبه يقول سفيان وابن المبارك ومالك والشافعي، يختارون الصلاة فرادى أهـ.

وإنما كره هؤلاء ومن وافقهم ذلك خشية الفرقة، وتوليد الأحقاد، وأن يتخذ أهل الأهواء من ذلك ذريعة إلى التأخر عن الجماعة، ليصلوا جماعة أخرى خلف إمام يوافقهم على نحلتهم وبدعتهم، فسداً لباب الفرقة وقضاءً على مقاصد أهل الأهواء السيئة هو أن لا تصلى فريضة جماعة في مسجد بعد أن صليت فيه جماعة بإمام راتب أو مطلقاً.

والقول الأول هو الصحيح، لما تقـــدم من الحديث لعموم قوله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن:16)

وقوله  : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ولا شك أن الجماعة من تقوى الله، ومما أمرت بها الشريعة، فينبغي الحرص عليها على قدر المستطاع. ولا يصح أن يعارض النقل الصحيح بعلل رآها بعض أهل العلم وكرهوا تكرار الجماعة في المسجد من أجلها، بل يجب العمل بما دلت عليه النقول الصحيحة، فإن عرف عن أحد أو جماعة تأخر لإهمال، وتكرر ذلك منهم، أو عرف من سيماهم ونحلتهم أنهم يتأخرون ليصلوا مع أمثالهم عزروا وأخذ على أيديهم بما يراه ولي الأمر ردعاً لهم ولأمثالهم من أهل الأهواء، وبذلك يسد باب الفرقة، ويقضى على أغراض أهل الأهواء، دون ترك العمل بالأدلة التي دلت على الصلاة جماعة لمن فاتتهم الجماعة الأولى.

وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. 

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:

عضو: عبد الله بن قعود.

عضو: عبد الله بن غديان.

نائب الرئيس: عبد الرزاق عفيفي.

الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.8


1– رواه الطبراني وابن عدي، وفي سنده معاوية ابن يحيى وهو متكلم فيه ذكره الدارقطني في الضعفاء والمجروحين، وابن عدي في الكامل في الضعفاء، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال وذكر أحاديثه المناكير منها هذا الحديث.. قال الكشميري: وفي سنده معاوية بن يحيى من رجال (التهذيب) متكلم فيه) العرف الشذي على جامع الترمذي ص118..  ومع كل ما ذكره العلماء فقد حسنه الألباني في تمام المنة (1/56).

2– المبسوط (1/132).

3– (1/157).

4جامع الترمذي (1/430).

5شرح السنة (3/437).

6المحلى (4/236-237).

7– روه أحمد والترمذي وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود (537).

8الفتوى رقم (2583).