من لوازم محبة النبي صلى الله عليه وسلم

 

 

من لوازم محبة النبي – صلى الله عليه وسلم –

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على السراج المنير، وقائد الغر المحجلين،وإمام الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

من رحمة الله لعباده أن أرسل إليهم الرسل من أجل أن يعبدوا ربهم – تبارك وتعالى – على بصيرة وعلم، وحتى تقام عليهم الحجة، فإن الله – تبارك وتعالى – لا يعذب أمة إلا بعد أن يبعث فيهم رسولاً قال الله – تبارك وتعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}1.

ومن رحمة الله – تعالى – بهذه الأمة أن أرسل إلينا نبينا محمد بن عبدالله   فأخرجنا من الظلمات إلى النور، وأمرنا بطاعته التي هي طاعة لله -تبارك وتعالى – قال – تعالى -: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}2؛ وسوف نذكر بعضاً من لوازم محبته   وهي كالتالي:

أولاً: الإيمان بأنه – صلى الله عليه وسلم – رسول الله من عند الله: حيث الإيمان به   من أركان الإيمان التي يجب على المسلم الإيمان بها قال الله – تبارك وتعالى -: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}3، وقال: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}4، وفي حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله   قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله))5؛

والإيمان به   يعني: التصديق الجازم الذي لا شك فيه بأن رسالته ونبوته حق من عند الله – تبارك وتعالى -، والعمل بِمقتضى ذلك، والتصديق بأن كل ما جاء به من الدين وما أخبر به عن الله – تبارك وتعالى – حق، ولابد من تصديق ذلك بالقلب واللسان، فلا يكفي الإيمان باللسان والقلب منكر لذلك قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}6،

فالإيمان به   وبرسالته وبكل ما أخبر به من الأمور التي وقعت والتي لم تقع مما أطلعه الله عليه؛ واجب حتى يكمل إيمان المرء، ومن شك في نبوته أو رسالته فهو كافر فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله   أنه قال: ((والذي نفسي محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار))7.

ثانياً: محبته وتقديمه على النفس والأهل والمال والناس أجمعين: ومحبة النبي   أصل عظيم من أصول الإسلام، وشرط من شروط صحة الإيمان قال الله – تبارك وتعالى -: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}8، فلا يجوز أن يكون حب أي عرض من أعراض الدنيا مقدماً على محبة الله ورسوله، والرسول   ينفى الإيمان عمن لم يجعل محبته مقدمة على محبة الأهل والمال والولد ففي حديث أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))9،

ولحديث عبد الله بن هشام – رضي الله عنه – قال: “كنا مع النبي   وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، فقال له عمر: “يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي”؛ فقال النبي  : ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)) فقال له عمر: “فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي”؛ فقال النبي  : ((الآن يا عمر))10، وله أيضاً – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار))11.

ولقد كان حب النبي   من القضايا المسلم بها عند الصحابة الكرام – رضي الله عنهم -، ولعل من أبرز النماذج على حب الصحابة – رضي الله عنهم – للنبي   ما وقع في غزوة أحد كما أخرجه مسلم من حديث عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: “لما كان يوم أحد انهزم ناس عن النبي   وأبو طلحة بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم – مجوب عليه بجحفة، قال: وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، قال: فكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، قال: ويشرف النبي  ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف لا يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك”12وغير ذلك.

ثالثاً: تعظيمه وتوقيره واحترامه واجلاله، والأدب معه، ومنه عدم رفع الصوت عند سماع حديثه – عليه الصلاة والسلام -: وذلك أمر من الله – تبارك وتعالى – حيث قال في محكم التنزيل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}13، ومعنى توقيره  : إجلاله وتعظيمه كما ينبغي له ذلك، فيرفع من قدره  حتى لا يساويه أحد من الناس، من غير إفراط ولا غلو، على ألا يُرفع إلى مقام العبودية فإن ذلك محرم ولا يجوز ولا ينبغي إلا لله – تبارك وتعالى -.

ومن توقيره   أيضاً عدم ذكر اسمه مجرداً فلا يقال مثلاً: محمد، بل يقال: نبي الله، ورسول الله لقوله – تبارك وتعالى -:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً}14، وأمر الله بخفض الصوت عنده  ، هذا في حياته، أما بعد موته فيكون بعدم رفع الصوت عند من يقرأ سنته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}15، ولا يحل لأحد أن يسبقه بالقول، ولا برأي، ولا بقضاء، بل يتعين عليه أن يكون تابعاً له  .

ومن تعظيمه   تعظيم حديثه، لورود هذه الآية الكريمة، ومن النماذج على توقير الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – لرسول الله   ما رواه الحاكم عن أبي أيوب – رضي الله عنه – قال: “لما نزل عليَّ رسول الله   قلت: بأبي أنت وأمي أني أكره أن أكون فوقك وتكون أسفل مني، فقال رسول الله  : ((إني أرفق بي أن أكون في السفلى لما يغشانا من الناس))، قال: فلقد رأيت جرة لنا انكسرت فاهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فرقاً أن يصل إلى رسول الله   شيء يؤذيه”16 وغير ذلك.

رابعاً: طاعته – عليه الصلاة والسلام -، وامتثال أمره، واجتناب ما نهى عنه: فطاعته   واجبة بأمر الله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}17، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ}18، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاتُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}19 قال ابن سعدي – رحمه الله -: “يأمر – تعالى – المؤمنين بأمر به تتم أمورهم، وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية وهو: طاعته وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه، والطاعة هي امتثال الأمر، واجتناب النهي على الوجه المأمور به بالإخلاص وتمام المتابعة”20؛ وأخبر – سبحانه – بأن طاعته هي طاعة لله – عز وجل – فقال – تبارك وتعالى -: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}21، وأخبر بجزاء من أطاعه وأطاع رسوله فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}22، وقال: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}23، وقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً}24، وغير ذلك من الآيات التي تدلل على عظم شأن طاعته  .

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله   قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى))25.

فالواجب على المؤمن طاعة النبي   فيما أحلّ وحرّم، والحذر من معصية ومخالفة أمره   فإن ذلك يُحبط الأعمال، ويوجب النيران قال – تعالى -: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}26، وقال: {إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}27، وطاعته   تعني: التمسك بسنته وما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاهتداء بهديه قال – تعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}28، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))29.

خامساً: المتابعة له – عليه الصلاة والسلام -: فإن اتباعه  في الاعتقاد والقول والعمل واجبة وهي الدين كله،وهي شرط لمحبة الله للعبد قال – تعالى -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}30، ومعنى المتابعة له   أن يكون اعتقاد العبد وقوله وعمله تابعاً لاعتقاد وعمل النبي  ، فلا يخالفه في شيء، وكذلك لا يبتدع المسلم بدعة، ولا يعمل ببدعة ابتدعها غيره، بل يعمل على إزالة كل بدعة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً لقوله  : ((وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))31،

وعلى المسلم رد كل قول إلى قوله  ، وترك كل تشريع لشرعه،والإعراض عن كل ما خالف هديه   في القول والعمل والاعتقاد، والأخذ بكل ما صح عنه وثبت نسبته إليه  ؛ فإنه كان يقول في خطبه: ((فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))32، والحذر كل الحذر من مُخالفة أمر النبي   ففي مخالفته خروج من الدين، وارتداد عنه – عياذاً بالله – قال – تعالى -: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}33،

فهو أمر من الله – تعالى – باتباع نبيه   لمن أراد الهداية،ومن خالف أمره فليس له إلا الغواية والندامة؛ واستمع إلى جملة من أقوال السلف -رحمهم الله – في الاتباع:

قال ابن عطاء – رحمه الله -: “من ألزم نفسه آداب السنة؛ نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه34“؛ وقال الإمام أحمد – رحمه الله -: “من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول   في أحواله وأقواله وأفعاله35“؛ وقال ابن القيم – رحمه الله -: “فمن صحب الكتاب والسنة، وتغرب عن نفسه وعن الخلق،وهاجر بقلبه إلى الله؛ فهو الصادق المصيب36“؛

وقال البربهاري – رحمه الله -: “واعلم رحمك الله أن العلم ليس بكثرة الروايةوالكتب، إنما العلم من اتبع العلم والسنن، وإن كان قليل العلم والكتب، ومن خالفَ الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة، وإن كان كثير العلم والكتب37“،

وقال أبو إسحاق الرقي: “علامة محبة الله: إيثار طاعته ومتابعة رسوله  38“، وقال ابن أبي العز – رحمه الله -: “والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع39“؛ وقال – رحمه الله -: “وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول   إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه، وإلا فهو ضالّ40“؛ وقال ابن الماجشون – رحمه الله -: “سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعةيراها حسنة فقد زعم أن محمدا ًخان الرسالة، لأن الله يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}41، فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم دين42” وغير ذلك من الأقوال.

سادساً: الاقتداء به والتأسي به – صلى الله عليه وسلم – في الظاهر والباطن وفي كل صغير وكبير؛ والاحتكام إلى سنته عند الاختلاف: فإن ذلك من دلائل المحبة أيضاً، فقد أقسم الله – عز وجل – بنفسه أن إيمان العبد لايتحقق حتى يرضى بحكم رسول الله   في جميع شؤونه وأحواله، وحتى لا يبقى في صدره أي حرج أو اعتراض على هذا الحكم فقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّاقَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}43، وجعل الإعراض عن سنته وترك التحاكم إليها من علامات النفاق والعياذ بالله فقال – تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}44، ومن الدلائل أيضاً على محبته   الذَّبُّ عنه، والدفاع عن سنته ضد كل مبطل ومشكك، والحرص على نشرها بين الناس صافية نقية من كل ما علق بها من شوائب البدع.

وإن مما يؤسف له أن صار مفهوم محبة الرسول   فاسداً ومنحرفاً عند كثير من المسلمين، خصوصاً في هذه العصور المتأخرة، فبعد أن كانت هذه المحبة تعني إيثار الرسول   على كل مخلوق، وطاعته واتباعه؛ صار مفهومها عند البعض عبادته ودعاءه، وتأليف الصلوات المبتدعة، وعمل الموالد، وإنشاد القصائد والمدائح في الاستغاثة به، وصرف وجوه العبادة إليه من دون الله – عز وجل -، وما أمر الصوفية منكم ببعيد، وبعد أن كان تعظيم رسول الله   بتوقيره والأدب معه؛ صار التعظيم عندهم هو الغلو فيه بإخراجه عن حد البشرية، ورفعه إلى مرتبة الألوهية، وكل ذلك من الفساد والانحراف الذي طرأ على معنى المحبة ومفهومها.

إن المحبة ليست ترانيم تغنى، ولا قصائد تنشد، ولا كلمات تقال، ولكنها طاعة لله ولرسوله  ، وعمل بالمنهج الذي حمله ودعا إليه، وإلا فأي تعظيم أو محبة للنبي   لدى من شك في خبره، أو استنكف عن طاعته، أو تعمد مخالفته، أو ابتدع في دينه، فاحرص على فهم المحبة فهماً صحيحاً، وأن يكون الرسول   القدوة في كل الأقوال والأفعال، ففي ذلك الخير في الدنيا والآخرة قال الله – جل وعلا -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}45؛ ولم يعرف إنشاد القصائد والاحتفال بالمولد عن أحد من السلف، وهم من أشد الناس محبة واتباعاً له م  .

سابعاً: محبة أهل بيته – صلى الله عليه وسلم – المتبعين له، وصحابته – رضوان الله عليهم -، والمتبعين لسنته: إن محبة أهل بيت رسول الله  ، ومحبة أصحابه – رضي الله عنهم -؛كل ذلك من محبته  ، وهي محبة واجبة، فمن أبغض أحداً من أهل بيت النبي  ، أو أحداً من صحابته الكرام  ؛ فقد أبغض النبي  ؛ لأن مَحبته مقرونة بِمحبتهم ((أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي))46،

ومن مظاهر حبه   حب أصحابه، ومعرفة فضلهم وقدرهم، والثناء عليهم بما هم أهله، والانتصار لهم ممن يؤذيهم وبغير الخير يذكرهم، فهم خير هذه الأمة بعد نبيها، ويكفى أنهم فازوا بشرف صحبة النبي  ، وأن الله قد خصهم بهذا الشرف دون غيرهم من العالمين، فكانت لهم منزلة الصحبة التي لا تعادلها أي منزلة سواها في هذه الأمة، وقد أثنى الله عليهم في كتابه في مواضع كثيرة منها قوله – تعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَاالْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}47، وقال – تعالى -: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ }48، وقال – تعالى -: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }49 فهذه الآيات وغيرها تتضمن الثناء على الصحابة، وتذكرهم بالخير، وسابق الفضل، وعلو المنزلة، كما تبين حال من أتى بعدهم من المؤمنين بأنهم يستغفرون لهم، ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، وهذا هو شأن المؤمنين مع صحابة رسول   ومن أتى بعدهم من صالح المؤمنين.

وقد أثنى الرسول  على أصحابه خيراً فقال كما في الصحيحين عن عبد الله – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته))50؛ وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال النبي  : ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً مابلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه))51، ولقد صدق عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – في وصفهم حيث قال: ((إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجلعهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيئ))52، فصار من لوازم محبة رسول الله   محبة صحابته وقرابته وأهل بيته، ومعرفة فضلهم والثناء عليهم بما هم أهله، والدفاع عنهم، وصون حرمتهم.

ثامناً: الإكثار من الصلاة والسلام عليه – صلى الله عليه وسلم -: ومن حقه   على أمته أن يصلوا عليه، فهي واجبة على كل مؤمن ومؤمنة لما في ذلك من الأجر العظيم من الله – تبارك وتعالى -، ولما فيها أيضاً من طاعة لله – تعالى – عندما أمر المؤمنين بالصلاة والسلام على نبيه فقال – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}53 قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: ” أي أن الله – تعالى – أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الَملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالَمينِ العلوي والسفلي جميع54“.

وإن من فضائلها: ما روى عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أنه سمع النبي   يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة))55؛ وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله   قال: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً))56.

وأفضل صيغة للصلاة عليه   ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ إن النبي   خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد))57.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد ولد عدنان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.


1 سورة الإسراء (15).

2 سورة النساء (80).

3 سورة التغابن (8).

4 سورة الأعراف (158).

5 رواه البخاري في صحيحه برقم (25).

6 سورة النساء (136).

7 رواه مسلم في صحيحه برقم (153).

8 سورة التوبة (24).

9 رواه البخاري في صحيحه برقم (15)؛ ومسلم في صحيحه برقم (44).

10 رواه البخاري في صحيحه برقم (6257).

11 رواه البخاري في صحيحه برقم (16).

12 رواه مسلم في صحيحه برقم (1811).

13 سورة الفتح (8-9).

14 سورة النور (63).

15 سورة الحجرات (2).

16 رواه الحاكم في المستدرك برقم (5939)، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه؛ ووافقه الذهبي).

17 سورة النساء (59).

18 سورة الأنفال (20).

19 سورة محمد (33).

20 تفسير السعدي (1/789).

21 سورة النساء (80).

22 سورة النساء (13).

23 سورة النساء (69).

24 سورة الفتح (17).

25 رواه البخاري في صحيحه برقم (6851).

26 سورة النساء (14).

27 سورة الجن (23).

28 سورة الحشر (7).

29 رواه البخاري في صحيحه برقم (6858).

30 سورة آل عمران (31).

31 سنن أبي داود في سننه برقم (4607)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2549)؛ وفي الجامع الصغير وزيادته برقم (4314).

32 أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه برقم (867).

33 سورة الأعراف (158).

34 مدارج السالكين (2/486).

35 انظر مدارج السالكين (2/486)؛ ومفتاح دار السعادة (1/165).

36 مدارج السالكين (2/487).

37 شرح السنة (104).

38 مدارج السالكين (2/487).

39 شرح الطحاوية (37)؛ وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/170).

40 شرح الطحاوية (511).

41 سورة المائدة (3).

42 الاعتصام للشاطبي (1/28).

43 سورة النساء (65).

44 سورة النساء (60-61).

45 سورة الأحزاب (21).

46 رواه مسلم في صحيحه برقم (2408).

47 سورة التوبة (100).

48 سورة الفتح (18).

49 سورة الحشر (8-10).

50 رواه البخاري في صحيحه برقم (2509)؛ ومسلم برقم (2533).

51 رواه البخاري في صحيحه برقم (3470)؛ وفي صحيح مسلم برقم (2540).

52 رواه أحمد في المسند برقم(3600)وقال شعيب الأرنؤوط ( إسناده حسن.

53 سورة الأحزاب (56).

54 تفسير ابن كثير (6/457).

55 رواه مسلم في صحيحه برقم (384).

56 رواه مسلم في صحيحه برقم (408).

57 رواه البخاري في صحيحه برقم (5996).