التهاون بالمحرمات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا. أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى حرم المعاصي والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتوعد فاعليها بالعذاب الأليم في الآخرة، والمعيشة الضنكى في الحياة الدنيا..
فالتهاون بتلك المعاصي والمحرمات أمر بالغ الخطورة، لأنه يوصل فاعلها إلى تبلد الإحساس وممارستها بعادة يومية، وتصبح تلك المنكرات والمحرمات أمراً مألوفاً للنفوس، ويغدو من ينكرها مخالفاً لما عليه الناس..
وقد حذر النبي ﷺ من محقرات الذنوب والتهاون بها، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله عز وجل طالباً).1
وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) وإن رسول الله ﷺ ضرب لهن مثلاً (كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً،وأنضجوا ما قذفوا فيها).2
فهذه عاقبة التهاون بالمحرمات صغائرها فكيف بكبائرها، وكيف بمن أصبح الحرام عنده أمراً ملازماً له لا يفارقه..!
لقد قال أنس بن مالك مخاطباً التابعين الذين لم يروا النبي ﷺ ولم يلاقوه: “إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي ﷺ من الموبقات” أي المهلكات. (رواه البخاري)
فهذا أنس يقول ذلك لأصحابه من التابعين، فكيف بزماننا هذا وكيف بكثير ممن ترك الصلاة ومنع الزكاة وفعل المنكرات والفواحش ممن يعيش في بلاد الإسلام؟
أيها الناس: إن الأمر جد خطير، وإن التهاون بالمحرمات طريق إلى النار، والعياذ بالله، لقد قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}(59) سورة مريم.
“عباد الله: احذروا مكايد الشيطان ومكره فإنه يتنوع في ذلك ويتلون، فهذا يأتيه من قبل الإيمان والتوحيد فيوقعه في الشك أحيانا، وفي الشرك أحيانا، وهذا يأتيه من قبل الصلاة فيوقعه في التهاون بها والإخلال، وهذا يأتيه من قبل الزكاة فيوقعه في البخل بها أو صرفها في غير مستحقها، وهذا يأتيه من قبل الصيام فيوقعه فيما ينقضه من سيء الأقوال والأفعال، وهذا يأتيه من قبل الحج فيوقعه في التسويف به حتى يأتيه الموت وما حج، وهذا يأتيه من قبل حقوق الوالدين والأقارب فيوقعه في العقوق والقطيعة،
وهذا يأتيه من قبل الأمانة فيوقعه في الغش والخيانة، وهذا يأتيه من قبل المال فيوقعه في اكتسابه من غير مبالاة فيكتسبه عن طريق الحرام بالربا تارة وبالغرور والجهالة تارة، ويأخذ الرشوة أحيانا، وبإهمال عمله تارة إلى غير ذلك من أنواع المعاصي وأجناسها التي يغر بها الشيطان بني آدم، ثم يتخلى عنهم أحوج ما يكونون إلى المساعد والمعين،اسمعوا قول الله تعالى في خداع الشيطان لأبوينا آدم وحواء حين أسكنهما الله تعالى الجنة وأذن لهما أن يأكلا رغدا من حيث شاءا من أشجارها وثمارها سوى شجرة واحدة عينها لهما بالإشارة: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} ولكن الشيطان وسوس لهما وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ*وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا} أي أنزلهما من مرتبة الطاعة وعلو المنزلة {بِغُرُورٍ}.. واسمعوا خداعه لقريش
في الخروج إلى بدر وتخليه عنهم حيث يقول الله تعالى في ذلك: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (48) سورة الأنفال، واسمعوا قول الله تعالى في خداع الشيطان لكل إنسان وتخليه عنه حيث يقول الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(22) سورة إبراهيم.
عباد الله: إن كل ما تجدون في نفوسكم من تكاسل عن الطاعات وتهاون بالمعاصي فإنه من وساوس الشيطان ونزغاته، فإذا وجدتم ذلك فاستعيذوا بالله منه، فإن في ذلك الشفاء والخلاص قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (200-201) سورة الأعراف.3
إن من المحرمات التي تهاون بها الناس في زماننا: الربا، فقد أصبح ظاهرة شائعة في تعاملات كثير من الدول والمؤسسات والأفراد، وقد تهاونوا بهذا وتساهلوا بجريمة هي من أكبر الجرائم التي ورد فيها وعيد شديد وتهديد رهيب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} (278-279) سورة البقرة.
فأي تحذير أشد من هذا لمن عصى الله وتجرأ على دينه وتهاون بشرعه وتجاوز حدوده التي حدها للناس؟!
لقد وقع كثير من المسلمين في ربا القرض والنسيئة اللذين حذر النبي ﷺ من تعاطيهما، وأكثر الدول اليوم تستعمل ذلك في قروضها من دول أخرى فإنها لا تعيد لها إلا بأكثر مما أخذت من المال مقابل التأخير، وهذا مشروط بينهم عند عقد القرض، إن هذا لهو الربا الصريح الذي أهلك دولاً ومؤسساتٍ وأفراداً..
وأما ربا النسيئة فيكون بالزيادة في السعر مقابل تأخير الثمن.
ومن المحرمات التي تهاون بها كثير من الناس: النظر إلى ما حرم الله من صور النساء على مختلف وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، من تلفاز وانترنت وصحف ومجلات وغير ذلك، فقد أصبحت ظاهرة سيئة، جلبت على الناس المعاصي والذنوب وقست بسبب ذلك القلوب،فنتج عن ذلك بعد عن الله وتهاون بالصلاة وتضييع لأوقاتها، ووقع الفساد الأخلاقي جراء ذلك..
فيا لله من أمة كرمها الله بالإسلام والخيرية ثم هي تتنكب ذلك الطريق المستقيم،ويضل بعض أفرادها طريق الاستقامة والصلاح..
ومن المحرمات التي تهاون بها كثير من المسلمين: الكذب في الكلام وإخلاف المواعيد، فلا تكاد تجد أحداً يصدق في قول أو يلتزم بوعد إلا من رحم الله وخاف يوم الوعيد، إنك لتجد كذباً في البيع والشراء وغشاً في المعاملات، وضعف ثقة بين المسلمين بسبب الكذب المنتشر، والإفك المستمر.. إن الكذب يوصل صاحبه إلى الفجور والزور ثم إلى النار؛ كما جاء في الحديث: (إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).4
فاتقوا الله عباد الله وخافوا يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وتخلقوا بأخلاق الإسلام، وتجنبوا المهلكات والموبقات من المعاصي والذنوب، وإياكم والتهاون بالمحرمات التي حرمها الله ورسوله، واعلموا أنكم إلى الله راجعون، وعن كل أعمالكم محاسبون، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (102-103) سورة المؤمنون.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على ما أنعم وأولى، وله الشكر في الآخرة والأولى، وصلى الله وسلم على من بعثه ربه نبينا ورسولا، وعلى آله وصحبه.. أما بعد:
فإن من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا يأبى أن يكون في عداد العصاة والمجرمين والمنتهكين للحرمات.. فما بال البعض منا يعمل المنكرات والموبقات وهو لا يدري! إنها الغفلة يا عباد الله، والرين الذي أدى إلى قسوة القلوب، فعميت عن مشاهدة عيوبها، وملاحظة سيئاتها..
ولو علم المسلم أنه عاص لله تعالى لأقلع، لكن كثيراً من الناس واقع بين الجهل، أو التأويل الشيطاني للوقوع في المحرمات، وقليل من يعتقد أنه على معصية يتوب منها..!
وهذه التأويلات الشيطانية والوساوس الإبليسية هي التي دمرت أمماً ودولاً ماضية وحاضرة، وهي التي زينها الشيطان لأصحابها حتى ظنها الكثير حلالا أو مباحا أو جائزاً، وهي في قمة المنكرات..!
ألم يتجرأ الكثير على تسمية الأمور بغير اسمها، فسمي الربا فوائد؟! والخمر مشروبات روحية؟! والتبرج والسفور حرية وحقوقاً مشروعة؟؟ والتنصل من الإسلام حرية اعتقاد؟ والشذوذ حرية شخصية؟! والزنا علاقات جنسية؟ وتولي اليهود والنصارى علاقات ثنائية ومصالح مشتركة؟
عبد الله: إن كل ذلك ينبئك على خطورة التهاون بالمعاصي أو تهوينها للناس، أو الدخول من باب شيطاني كبير يلج منه كل جبار عنيد، وكل مريض القلب بالشهوات والشبهات.
لقد أخبر النبي ﷺ أن في آخر الزمان يظهر أئمة مضلون يحدثون الناس بما لم يعرفوه هم ولا آباؤهم، وأن الله يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا فني العلماء نصب الناس لهم رؤوساً جهالاً فسألوهم فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا..! كما أخبر الصادق المصدوقﷺ .
ألم يحلل بعض الأئمة المضلين الزنا تحت مسمى المتعة وهي في الحقيقة عين الزنا لما فيه من اختلاط النطف والأنساب، وشيوع الأمراض والأوبئة المدمرة للأمم؟!
ألم يحلل بعض الأئمة المضلين الربا، وسماه بغير اسمه..!
ألم يحل الغناء والموسيقى وتوابعها بحجة الترويح عن النفوس من بعض الأئمة المضلين..!
وهكذا يتتابع المضلون في التحلل من أحكام الإسلام بحجة مسايرة العصر وحاجات المرحلة الراهنة على حساب الدين ومسلمات الإسلام..!
فيا عباد الله اثبتوا اثبتوا، فو الله إن الأمير خطير، وإن الخطب جليل، وإن القضية جنة أو نار، لا ينفعك فلان أو علان إذا تنصلت من أحكام الإسلام، أو وقعت في الحرام بحجة أن فلاناً الضال المضل أفتاك، لقد بين النبي ﷺ أن الحلال بين وأن الحرام بين، وأن الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس وإن أفتاك الناس..
فوالله إن الفضيلة واضحة ظاهرة، وإن الرذيلة ظاهرة بينة، ولو طبل المطبلون وزمر المزمرون، وأتوا بخيلهم ورجلهم يحادون الله ورسوله في أحكامه وشرعه..
فيجب على المسلم أن يكون وقافاً عند حدود الله مستجيباً لندائه وأمره، مبتعداً عن المحرمات ما ظهر منها وما بطن، وأن يكون حريصا على تحري الحق والحلال وتجنب الباطل والحرام، وإلا خبط في هذه الدنيا خبط عشواء، وتصرف تصرف الظالمين الذين يندمون على ظلمهم وتقصيرهم في جنب الله، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (27) سورة الفرقان.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يردنا إليه مرداً جميلاً، وأن يرفع عنا البلاء والفتن ما ظهر منها وما بطن..
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.